بقلم: هازيا داينر
ملايين من النساء والرجال حول العالم اتخذوا عبر عقود من الزمن قرار الهجرة إلي الولايات المتحدة. فشكل هذا الواقع أحد العناصر المحورية التي أدت إلي التطور الشامل لهذا البلد. وهذه العملية كانت أساسية في إرساء أصول البلاد التي سبقت بروز قوميتها وسبقت قيامها كدولة جديدة مستقلة, كما بروزها لتصبح فيما بعد قوة عالمية بدلا من مجرد مركز حدودي ناء علي المحيط الأطلنطي, لا سيما من حيث قوة نموها الاقتصادي. فالهجرة هي التي صنعت الولايات المتحدة الأمريكية.
وشأنها شأن العديد من المجتمعات الاستيطانية الأخري, اعتمدت الولايات المتحدة, قبل أن تحقق الاستقلال وبعده, علي تدفق الوافدين الجدد من الخارج من أجل إسكان الأرض المفتوحة غير المأهولة نسبيا. وتتشاطر الولايات المتحدة هذا الواقع التاريخي مع كل من كندا, وجنوب أفريقيا, وأستراليا, ونيوزيلندة, والأرجنتين وغيرها من الدول.
في جميع هذه الحالات, استطاعت القوي الإمبريالية, التي طالبت بملكية هذه الأماكن, تحقيق عنصرين من العناصر الثلاثة اللازمة لإنجاز هدفها المتمثل في استخراج الموارد الطبيعية من المستعمرات الجديدة. كانت تلك القوي تملك الأرض ورأس المال, لكنها كانت تفتقر إلي الناس للعمل في المزارع, والمناجم, والصيد, وقطع الأخشاب, وغيرها. حاول مديرو المستعمرات استخدام السكان الأصليين كيد عاملة, لكن نسبة نجاحهم في ذلك كانت تزيد أو تنقص. وهكذا, ساعدوا علي تجارة الرقيق الأفريقي, مما أدي إلي نقل ملايين المهاجرين, رغم إرادتهم, إلي مواقع العالم الجديد هذه.
إلا أن الهجرة لم تلعب دورا رئيسيا وحسب في صنع نمو أمريكا, ولكن أيضا في تشكيل الطبيعة الأساسية لهذا المجتمع. ينقسم تاريخ الهجرة إلي خمس فترات زمنية منفصلة, كل منها ينطوي علي تباين في معدلات الهجرة من أماكن مختلفة جدا من العالم, وكل منها عكس وشكل الكثير من عناصر الطبيعة الأساسية للمجتمع والاقتصاد الأمريكيين.
المستوطنون في العالم الجديد
امتدت حقبة الاستيطان الأولي والأطول, من القرن السابع عشر إلي أوائل القرن التاسع عشر. جاء المهاجرون من مجموعة من الأماكن, بما فيها المنطقة الناطقة بالألمانية, ومن فرنسا (الفرنسيون البروتستانت), وهولندا. أما المهاجرون الآخرون فكانوا يهودا من هولندا ومن بولندة أيضا, ولكن معظم المهاجرين في تلك الحقبة كانوا من الجزر البريطانية, الإنجليز, والأسكتلنديين, والويلزيين, والأيرلنديين من منطقة الشمال. وقد هاجروا نحو المستعمرات (التي أصبحت في وقت لاحق الولايات) والمناطق المختلفة الأخري.
هؤلاء المهاجرون, الذين يشار إليهم عادة باسم ##المستوطنين##, اختاروا بشكل رئيسي الزراعة, حيث اجتذب الوعد بالأراضي الزهيدة الثمن أعددا كبيرة من الأوربيين الفقراء نسبيا الذين جاءوا من غرب وشمال أوربا, وغيرهم من الأوربيين الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن الاستفادة من التحديث الحاصل في اقتصاديات بلدانهم. تستحق إحدي هذه المجموعات من المهاجرين بعض الاهتمام الخاص بسبب التجارب التي مرت بها والتي سلطت الكثير من الضوء علي القوي الدافعة للهجرة. فخلال هذه الحقبة, جاءت أعداد كبيرة من النساء والرجال كخدم ملزمين. كانوا قد أبرموا العقود مع أرباب العمل الذين حددوا الوقت وظروف العمل مقابل تأمين عبور هؤلاء إلي العالم الجديد. تحمل هؤلاء ظروفا قاسية أثناء خدمتهم في تلك الأزمان نتيجة الطريقة التي عوملوا بها. لكنهم, في نهاية المطاف, كسبوا ملكية قطع صغيرة من الأرض مكنتهم من العمل كمزارعين وفلاحين مستقلين.
الهجرة الجماعية
كان عدد الذين جاءوا في هذه الحقبة صغيرا نسبيا, لكنه ما لبث أن تغير في عشرينيات القرن التاسع عشر. فقد شهدت هذه الفترة عصر الهجرة الجماعية بدءا من ذلك العقد وحتي الثمانينيات من القرن التاسع عشر, حين شق ما يقارب من مليون مهاجر طريقهم إلي الولايات المتحدة, وقد اختار معظمهم الزراعة في الغرب الأوسط وشمال شرق البلاد, في حين قام غيرهم بالاتجاه للعمل في المدن مثل نيويورك, وفيلادلفيا, وبوسطن, وبالتيمور.
صاغت العوامل القائمة في كل من أوربا والولايات المتحدة هذا الانتقال. بنهاية حروب نابليون في أوربا تحرر الكثير من الشبان من الخدمة العسكرية وعادوا إلي أوطانهم في الوقت نفسه الذي بدأت فيه الثورة الصناعية والتحول الزراعي في إنجلترا والدول الإسكندينافية, وجزء كبير من أوربا الوسطي, بحيث دخلت الاقتصادات المحلية في مرحلة انتقالية خلقت فئة من الشباب الذين لا يستطيعون كسب معيشتهم في النظام الجديد. ارتفع الطلب علي اليد العاملة المهاجرة كثيرا مع حصول تطورين رئيسيين: استيطان الغرب الأوسط الأمريكي بعد تدشين قناة ##إيري## في عام 1825 وما نتج عنه من بروز لميناء نيويورك الجديد, وبدء تحرك التنمية الصناعية في الولايات المتحدة, ولا سيما صناعة النسيج التي تمحورت في منطقة نيو إنجلاند.
بدأ المهاجرون يتجمعون في مجموعات ويقطنون أحياء ومدنا ومناطق خاصة بهم. أصبح الغرب الأوسط الأمريكي, الذي شكل في أواسط القرن التاسع عشر أحد مناطق العالم الأكثر خصوبة, موطنا لتجمعات المهاجرين المتجانسة نسبيا, القادمين من السويد, والنرويج, والدانمرك, وبوهيميا, ومناطق أخري سوف تعرف بحلول العام 1871 بألمانيا.
شهدت هذه الحقبة وصول أول موجة كبيرة من المهاجرين الكاثوليك إلي الولايات المتحدة التي كانت بروتستانتية بمعظمها, وألهم هؤلاء النساء والرجال الأيرلنديون الأوائل أول تحرك جدي لمبدأ الأمريكيين ##الأهليين## والعداء للمهاجرين, بحيث تم دمج الكراهية للمهاجرين بشكل عام مع الخوف من الكاثوليكية والنفور من الأيرلنديين. أفرز هذا العداء للمهاجرين, لا سيما في العقود التي سبقت مباشرة الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865), حركة سياسية قوية, وحتي حزبا سياسيا جعل من مكافحة الهجرة ومكافحة الكاثوليكية أمرين مركزيين في الأجندة السياسية. وقد شهدت هذه الحقبة أيضا وصول أعداد صغيرة من المهاجرين الصينيين إلي الغرب الأمريكي. كانت ردة فعل الأمريكيين المولودين في أمريكا علي هذه الهجرة شديدة السلبية, ما أدي إلي اقرار التشريع الأمريكي الوحيد للهجرة الذي حدد مجموعة بعينها بمثابة ركيزة لهذه السياسة التقييدية, ونقصد بذلك قانون استثناء الصينيين للعام .1882
الموجة تصبح فيضانا
تدريجيا, علي مدار العقود بعد الحرب الأهلية, ومع تغير مصادر الهجرة, تغيرت أيضا تكنولوجيا النقل البحري. ففي حين وصل المهاجرون الأوائل إلي الولايات المتحدة في مراكب شراعية, أتاحت الابتكارات في وسائل النقل البخاري للسفن الكبيرة بنقل حمولات أكبر إلي الولايات المتحدة. جاء مهاجرو تلك الحقبة من جنوب وشرق أوربا, وهي المناطق التي كانت تشهد بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, التحولات الاقتصادية نفسها التي كانت قد شهدتها أوربا الغربية الشمالية في مرحلة سابقة.
وكما حصل في هجرات الفترات السابقة, ساد عنصر الشباب علي الوافدين الجدد. وهذه الموجة من الهجرة التي شكلت الحلقة الثالثة من تاريخ الهجرة إلي الولايات المتحدة, أفضل ما يمكن تسميتها به هو فيضان المهاجرين, حيث بلغ عدد الأوربيين المسافرين إلي الولايات المتحدة في تلك الحقبة حوالي 25 مليون نسمة. شكل الإيطاليون, واليونانيون, والهنجاريون, والبولنديون وغيرهم ممن يتكلمون اللغات السلافية, الكتلة الأكبر من هذه الهجرة. ومن ضمن هؤلاء كان هناك مليونان ونصف إلي ثلاثة ملايين يهودي.
اتسمت كل مجموعة بنمط مميز من الهجرة لناحية نسبة التوازن بين الجنسين ضمن المجموعة المهاجرة, ودوام هجرتهم, ونسبة الأميين من ضمنهم, والتوازن بين الأطفال والبالغين بينهم, وما شابه ذلك من الأمور. ولكن كانت هناك صفة رئيسية مشتركة بينهم جميعا: توجهوا إلي المدن فشكلوا أكثرية اليد العاملة الصناعية في الولايات المتحدة, مما أفسح المجال لقيام صناعات مهمة مثل الصلب, والفحم, والسيارات, والنسيج, والألبسة فأدي إلي صعود الولايات المتحدة لتحتل المرتبة الأولي ضمن عمالقة الاقتصاد العالمي.
توجههم إلي المدن, وأعدادهم, وربما الطبيعة الإنسانية الأساسية التي تنفر من الأجانب أدي إلي بروز موجة ثانية من الكراهية المنظمة ضد الأجانب. وبحلول تسعينيات القرن التاسع عشر, بدأ الكثير من الأمريكيين, لا سيما في صفوف البيض المولودين في الولايات المتحدة, اعتبار الهجرة خطرا جديا علي سلامة الدولة وأمنها. ففي عام 1893, شكلت مجموعة منهم جمعية لتقييد الهجرة وبدأت مع منظمات ذات ميول مشابهة, الضغط علي الكونجرس لإصدار قوانين تفرض التقليص الحاد لهجرة الأجانب.
تشريع الهجرة
بدأ تقييد الهجرة تدريجيا علي مدار أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين, لكن فور نهاية الحرب العالمية الأولي (1914- 1918), وامتدادا إلي أوائل عشرينيات القرن الماضي, قام الكونجرس بتغيير السياسة الأساسية للهجرة. فقانون الأصول القومية للعام 1921 (وشكله النهائي في عام 1924) لم يقتصر علي تقليص أعداد المهاجرين الذين يستطيعون الدخول إلي الولايات المتحدة وحسب, لكنه حدد أيضا هذه الشرائح وفقا لحصص محددة قائمة علي أصول قومية معينة. وكان هذا القانون بمثابة تشريع معقد فضل بشكل رئيسي المهاجرين القادمين من أوربا الشمالية والغربية وقلص إلي حد كبير أعداد أولئك القادمين من شرق وجنوب أوربا, وأعلن أن جميع المهاجرين المحتملين من آسيا ليسوا جديرين بالدخول إلي الولايات المتحدة الأمريكية.
استثني نظام الحصص هذا نصف الكرة الأرضية الغربي, وأطلقت عشرينيات القرن العشرين الحقبة ما قبل الأخيرة من تاريخ الهجرة إلي الولايات المتحدة, التي أتاحت للمهاجرين من تلك المناطق الانتقال إلي البلاد بحرية, ففعلوا ذلك, ووفدوا من المكسيك ومناطق البحر الكاريبي (بما فيها جامايكا, وباربادوس, وهاييتي), وأجزاء أخري من أمريكا الوسطي والجنوبية. عكست هذه الحقبة التطبيق لتشريع 1924 الذي استمر حتي عام .1965 خلال الأربعين سنة هذه, بدأت الولايات المتحدة أيضا بقبول أعداد محدودة من اللاجئين علي أساس كل حالة بمفردها, ومنهم اللاجئون الهاربون من النازية الألمانية قبل الحرب العالمية الثانية, واليهود الناجون من المحرقة النازية بعد الحرب, وغير اليهود من المهجرين, واللاجئين, والفارين من الحكم الشيوعي في أوربا الشرقية, والهنجاريين الساعين إلي ملجأ بعد فشل انتفاضتهم في عام 1956, والكوبيين الذين وجدوا لأنفسهم ملجأ في الولايات المتحدة بعد ثورة عام 1960, إذ حركت محنتهم ضمائر الأمريكيين حينذاك. ورغم ذلك, استمر قانون الهجرة الأساسي كما هو دون تعديل.
قانون هارت سيللار
تغير كل هذا بإقرار قانون هارت سيللار في عام 1965, الذي جاء نتاجا لثورة الحقوق المدنية وشكل الجوهرة في تاج برامج المجتمع العظيم للرئيس ليندون جونسون. لم يهدف هذا الإجراء إلي تشجيع الهجرة من آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا والأماكن الأخري من العالم النامي (العالم الثالث) بل هدف بدلا من ذلك إلي التخلص من نظام الحصص العنصري, وقد توقع معدوه أن يأتي المهاجرون من المجتمعات المهاجرة التقليدية مثل إيطاليا, واليونان, وبولندة, أي أماكن كانت حصصها قليلة جدا بظل قانون عام 1924 السابق. في القانون الجديد تم استبدال نظام الحصص بمعايير تفضيلية جديدة, مثل العلاقات الأسرية والمهارات الوظيفية العملية, مع إعطاء تفضيل خاص للمهاجرين المحتملين الذين لديهم أقارب في الولايات المتحدة, ولأصحاب المهن التي تعتبر مهمة برأي وزارة العمل الأمريكية. ولكن بعد عام 1970, وعقب موجة أولي أتت من البلدان الأوربية, بدأ المهاجرون بالتدفق من أماكن مثل كوريا, والصين, والهند, والفليبين, وباكستان فضلا عن البلدان الأفريقية. وبحلول عام 2000, عادت الهجرة إلي الولايات المتحدة إلي حجمها الذي عرفته في الأعوام الأولي للقرن العشرين لتصبح أمريكا من جديد وطنا يقوم المهاجرون بصياغته وتحويله.
اليوم, ومع بداية القرن الحادي والعشرين, تجد الولايات المتحدة نفسها منخرطة في مناقشات حول الهجرة ودور المهاجرين في المجتمع الأمريكي. فبالنسبة للبعض, بدا أن المهاجرين الجدد غير راغبين أو غير قادرين علي الانخراط في المجتمع الأمريكي, وأنهم ملتزمون جدا بالمحافظة علي ارتباطهم بوطنهم الأم, وبالتالي بعيدون جدا عن الالتزام بجوهر القيم الأمريكية. وكما في الحقبة السابقة, يعتقد بعض منتقدي المهاجرين المعاصرين أن هؤلاء يحرمون الأمريكيين من الوظائف ويحملونهم أعباء التعليم والرعاية الاجتماعية والصحية. ويعتبر العديد من المنخرطين في هذا النقاش أن العدد الكبير من العاملين غير المسجلين (أي مهاجرين من دون أوراق رسمية) يشكل خطرا علي البنية الأساسية للمجتمع.
إلا أن المهاجرين يحظون بدعم من الذين يشيرون إلي أن كل موجة هجرة جديدة كانت تأتي بالخوف, والشك, والقلق للأمريكيين, بمن فيهم أولاد أحفاد المهاجرين الأوائل, وأنه من الخطأ الادعاء بأن كل مجموعة من القادمين الجدد لن تنخرط بشكل من الأشكال في المجتمع الأمريكي وأنها ستبقي متشبثة بعاداتها القديمة والغريبة عن المجتمع الأمريكي. وحتي أن دعاة الهجرة ومعظم مؤرخي الهجرة يعتبرون أن المهاجرين يقومون بإغناء الولايات المتحدة علي نطاق واسع لأنهم يقدمون خدمات قيمة للوطن.
في كل حقبة من تاريخ الولايات المتحدة, من العهود الاستعمارية في القرن السابع عشر وحتي مطلع القرن الحادي والعشرين, اختار النساء والرجال من جميع أنحاء العالم, خوض التجربة الأمريكية. فقد وصلوا أجانب يحملون معهم لغات وثقافات وأديانا بدت في بعض الأحيان غريبة عن الجوهر الأساسي لأمريكا. ولكن مع مرور الوقت, وتغير النظرة إلي ثقافة الولايات المتحدة لدي المهاجرين وأحفادهم, فإنهم قاموا ببناء مجتمعاتهم الإثنية في نفس الوقت الذي انخرطوا فيه في الحياة المدنية الأمريكية ككل.
* هازيا داينر هي أستاذة تاريخ في جامعة نيويورك.
يو إس جورنال