نظرا إلي ان المفاوضات المباشرة تحافظ علي المشروع الوطني الفلسطيني وهو البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الذي أقره المجلس الوطني في العام 1988, لا مفر عندئذ من الترحيب بها أيا تكن كمية التحفظات عن نتانياهو وسياسة حكومته التي تعتبر الأكثر تطرفا في تاريخ الحكومات الإسرائيلية. باختصار شديد, ليس أمام الفلسطينيين في المرحلة الراهنة سوي المحافظة علي البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية نظرا إلي أنه تتويج لسنوات طويلة من النضال أوصلتهم إلي ان يكونوا موجودين علي الخريطة السياسية للشرق الأوسط, وهذا المشروع هو ثمرة نضال سياسي وعسكري طويل يزيد عمره علي نصف قرن أوصل في العام 1974 إلي احتلال منظمة التحرير الفلسطينية مقعد مراقب في الأمم المتحدة وإلي وجود تمثيل سياسي ودبلوماسي لها في كل العواصم المهمة علي الكرة الأرضية.
أكثر من ذلك, مكن البرنامج السياسي الذي اعتمدته منظمة التحرير الفلسطينية والذي يقوم علي خيار الدولتين ياسر عرفات, الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني, من دخول البيت الأبيض بغض النظر عن الأخطاء الضخمة التي ارتكبها الرجل في الأردن أو في لبنان أو في حق الكويت وحتي علي الصعيد الفلسطيني. فشل ##أبو عمار## فلسطينيا فشلا ذريعا في عملية بناء مؤسسات قابلة للحياة خصوصا منذ عودته إلي الأرض الفلسطينية في العام 1994 نتيجة توقيع اتفاق أوسلو.
لكن يكفي ياسر عرفات أنه أول زعيم للشعب الفلسطيني يستعيد أرضا ويكفي أنه أعاد ما يزيد علي ربع مليون فلسطيني إلي ارض فلسطين بعدما كان هؤلاء في الشتات. من السهل الكلام عن حق العودة, من اجل المتاجرة بالفلسطينيين وبقضيتهم, ولكن من الصعب ممارسة هذا الحق. ما نجح به ##أبو عمار## في الفترة التي اعتمد فيها الواقعية, مستندا إلي البرنامج السياسي لمنظمة التحرير بديلا من الشعارات والمزايدات, يتمثل في عودة فلسطينيين إلي فلسطين.
ما الذي يحصل الآن؟ لم يعد أمام السيد محمود عباس (أبو مازن) رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية سوي الانتقال إلي المفاوضات المباشرة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نظرا إلي أن الإدارة الأميركية مصرة علي ذلك. من الصعب التكهن بما ستئول إليه المفاوضات بعد سنة من الآن. لكن الثابت أن القبول بالمفاوضات يعني أول ما يعني المحافظة علي العلاقة مع الإدارة الأمريكية. من دون هذه العلاقة تصبح القضية الفلسطينية معزولة والقيادة الفلسطينية مطوقة. كان انقطاع العلاقة مع واشنطن وراء تمكن أرييل شارون من محاصرة ياسر عرفات في المقاطعة (مقر الرئاسة الفلسطينية في رام الله) طوال ما يزيد علي سنتين مما تسبب في وفاته. من دون هذه العلاقة, سيسهل علي إسرائيل جعل الحصار الظالم الذي تمارسه علي قطاع غزة ينسحب علي الأراضي الفلسطينية كلها وعلي كل فلسطيني مقيم في هذه الأراضي أكان ذلك في القطاع أو في الضفة.
الأهم من ذلك أن الذهاب إلي المفاوضات المباشرة يسمح بإبقاء المشروع الوطني الفلسطيني الذي يقبل به المجتمع الدولي علي الطاولة. بكلام أوضح, أنه يسمح بإبقاء القضية الفلسطينية حية ترزق. ولذلك, يمكن الحديث صراحة عن شجاعة ##أبو مازن## كونه رفض الانقياد للشارع وللحلول السهلة. فمثلما أن بيبي نتانياهو يسعي إلي التفاوض من أجل التفاوض, كان في استطاعة رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية المزايدة من أجل المزايدة استرضاء للشارع الذي كان سيصفق له طويلا ويمجده لو رفض الذهاب إلي واشنطن تلبية لدعوة من الرئيس باراك أوباما. اختار رئيس السلطة الوطنية أن يقود الشارع بدل الانقياد له بغض النظر عما سيقوله الجهلة والمزايدون هنا وهناك وهنالك, من عرب وغير عرب.
ليس أمام الجانب الفلسطيني سوي التمسك بالمشروع الوطني. إنه المشروع الوحيد القابل للحياة. انه المشروع الوحيد الذي يشكل ضمانة لبقاء القضية الفلسطينية علي الخريطة السياسية للشرق الأوسط. إنه المشروع الوحيد الذي يمكن أن ينتصر علي الاحتلال الإسرائيلي. كل ما تبقي سقوط في لعبة لا طائل منها تعكس غياب القدرة علي التعلم من تجارب الماضي القريب. فالكلام عن العودة إلي استخدام السلاح كلام مرحب به إسرائيليا. الدليل علي ذلك ما أسفرت عنه حرب غزة الأخيرة. قبل الحرب, كانت صواريخ ##القسام## التي تطلقها ##حماس## من القطاع قادرة علي تحرير فلسطين. بعد الحرب صار إطلاق الصواريخ ##خيانة وطنية## ومن يتجرأ علي ذلك يتعرض للملاحقة والقمع من قبل القوي المسلحة التي في إمرة ##حماس##. اليست الحرب درسا كافيا للامتناع عن العودة إلي السلاح وممارسة نوع آخر من المقاومة يقوم علي بناء المؤسسات الفلسطينية علي أي بقعة أرض تكون فيها السلطة الوطنية…
لن تؤدي المفاوضات المباشرة إلي معجزة. لكنها اللعبة الوحيدة المتاحة في المرحلة الراهنة. ولذلك, لا مفر من السير في هذه اللعبة إلي النهاية بدل إطلاق النار علي مستوطن إسرائيلي هنا أو آخر هناك. في نهاية المطاف لا يمكن إطلاق النار من دون مشروع سياسي واضح. فماذا لو تدهور الوضع في الضفة وخرج عن سيطرة السلطة الوطنية؟ ما الذي سيمنع إسرائيل عندئذ من تدمير قسم لا بأس به من البنية التحتية للضفة الغربية كما فعلت في غزة فيما العالم يتفرج عليها تمارس إرهاب الدولة. بعض التروي يبدو أكثر من ضروري في هذه المرحلة.
يفترض في من يقف في وجه المفاوضات المباشرة ويعترض عليها عن طريق التهديد بالسلاح القول ما هو البرنامج السياسي الذي يمتلكه والذي يريد تحقيقه وما هو المشروع الوطني الذي يريد إقناع العالم به ؟ هل هناك دولة في العالم, وفي المنطقة العربية والشرق الأوسط عموما, علي استعداد للمشاركة في حرب علي إسرائيل عن طريق آخر غير طريق الشعارات الكبيرة؟ ما الذي سيفعله الشعب الفلسطيني بالشعارات؟ هل الشعارات تطعم خبزا وتحرر أرضا او تعيد لاجئا إلي فلسطين… أو تفك الحصار الظالم علي غزة؟
* عن المستقبل اللبنانية