تحولت أجواء البهجة التي حفل بها ##الربيع العربي## عند انطلاقه مطلع العام 2011 إلي نوع من التشاؤم وعدم اليقين لدي العديد من المراقبين, سواء داخل المنطقة أو خارجها, وإن كانت بعض التطورات الإيجابية واضحة ولا يمكن إنكارها, مثل الإطاحة بنظام القذافي في ليبيا وانعتاق الشعب من حكمه الطويل. لكن, وفيما تنشغل ليبيا بصراعها الداخلي لبناء دولة حديثة والتغلب علي الصعوبات الجسمية أمامها, تظل الدول الأخري التي اكتسحتها الثورات غارقة في الاضطرابات والقلاقل.
هنا تبرز مصر التي تمر بفترة حرجة ويبقي وضعها, رغم نجاح شبابها في الإطاحة بنظام ##مبارك##, هشا للغاية, لاسيما في ظل التداعيات الخطيرة للوضع الحالي علي الاقتصاد والقدرة الإنتاجية للبلد. كما أن الجيش الذي يدير البلاد في مرحلته الانتقالية يواجه جملة من الضغوط الشديدة من الشباب والقطاعات الشعبية التي ملأت الشوارع بالاحتجاجات والمظاهرات المطالبة بتسريع وتيرة الإصلاح ومحاكمة رموز النظام السابق والتعجيل بنقل السلطة إلي المدنيين استنادا إلي الشرعية الدستورية. ومن جانبها يبدو أن السلطة الحاكمة في مصر حاليا متخوفة من إفساح المجال أمام انتخابات سابقة لأوانها قد تعمق حالة عدم الاستقرار, هذا بالإضافة إلي الاختلاف حول جدول زمني محدد لإجراء الانتخابات والتمهيد لتسليم السلطة للمدنيين. وينبع قلق الجيش المصري في هذه المرحلة من احتمال هيمنة جماعة ##الإخوان المسلمين## والقوي المتحالفة معها علي مقاليد الدولة بعد إجراء الانتخابات التي قد يحرزون فيها تقدما كبيرا.
لكن, وفيما عدا الانشغالات ذات الطبيعة الانتخابية التي تستحوذ علي تفكير الجيش, هناك أيضا معضلة الحفاظ علي الأمن والاستقرار, سواء علي الحدود أو في شوارع المدن التي زادت فيها أعمال البلطجة والانفلات الأمني. ولعل المثال الأبرز علي المشكلة الأمنية في مصر الهجوم الذي تعرضت له السفارة الإسرائيلية وسط القاهرة والهجمات الأخري علي وزارة الداخلية التي بات ينظر إليها كعدو صريح للشعب إلي حد بدت معه الأمور وكأنها خرجت عن السيطرة لولا تدخل الولايات المتحدة التي طلبت من السلطات المصرية حماية طاقم السفارة الإسرائيلية, فأرسلت فرق كوماندوز لإخراج الدبلوماسيين منها, فيما كانت طائرة إسرائيلية تنتظر في المطار لنقلهم إلي إسرائيل. ومهما يكن الأمر فقد مثلت تلك الحادثة عبئا جديدا علي العلاقات الإسرائيلية المصرية التي وصلت بعد الثورة إلي مرحلة واضحة من الجمود. لكن الاضطراب وسيولة الوضع لا تقتصر علي مصر, بل تنسحب أيضا علي اليمن التي شهدت قفزة خطيرة في وتيرة العنف خلال الأيام الأخيرة, فيما يواصل النظام السوري سياسته القمعية ضد المتظاهرين. هذا القمع الذي دفع أقرب حلفائه في المنطقة, تركيا وإيران, إلي انتقاده ودعوته للإصلاح, كما أن الجامعة العربية -وأمام اشتداد الضغوط الشعبية- قررت التدخل والدعوة إلي وقف العنف, رغم أن أداءها في الحالة السورية, بالمقارنة مع تدخلها في ليبيا وإعطائها شرعية لتدخل ##الناتو## بشن حملته الجوية, يبقي متواضعا ولا يرقي إلي المستوي المطلوب. ورغم الدعوات المتكررة من دول المنطقة والقوي العالمية, إلي وقف الآلة القمعية ومباشرة إصلاحات سريعة وحقيقية, لم يقدم نظام الأسد أي تنازلات فعلية. وبما أنه ومحيطه يعتبرون الصراع مع الشعب قضية حياة أو موت, فمن غير المرجح استسلامهم لمطالب الشارع في أي وقت قريب. والمشكلة بالنسبة لسوريا أن التداعيات الاستراتيجية لما يحصل فيها تمتد إلي كامل المنطقة, بحيث سيكون سقوط الأسد حدثا دراماتيكيا بكل المقاييس لا يضاهيه ربما سوي سقوط مبارك في مصر.
وحتي الآن يبدو أن معظم بقية الدولة العربية بمنأي عن الاضطرابات التي اجتاحت باقي أنحاء العالم العربي, إذ استطاعت الحفاظ علي استقرارها في وجه موجة التغيير التي تهب علي المنطقة. لكن ما سيحدث خلال السنة المقبلة سيكون له انعكاسات كبيرة علي عموم الشرق الأوسط, خاصة فيما يتعلق بالتنافس بين القوتين المتصارعتين, الولايات المتحدة وإيران, فلو آلت السلطة في مصر إلي حكومة وسطية تحافظ علي سلام بارد مع إسرائيل وعلي صداقتها التقليدية مع أمريكا, ولو سقط بشار في دمشق فاسحا الطريق أمام حكم سني, فإن الأمر سيكون سيئا بالنسبة لإيران التي تعاملت مع سوريا طيلة السنوات الماضية علي أنها قاعدتها المتقدمة لفرض نفسها كقوة علي السواحل المتوسطية. ومن نتائج مثل هذا التحول أن يتراجع الدعم السوري لـ##حزب الله## في لبنان ودخوله أوقاتا صعبة لإعادة فرض نفسه كقوة في بلد لا يحظي فيه بتوافق الجميع. وفي نفس السياق ستواجه ##حماس## ضغوطا كبيرة قد تضطرها إلي تسريع المصالحة مع السلطة الفلسطينية والتوصل إلي اتفاق نهائي مع إسرائيل بشأن حل الدولتين.
لكن في المقابل, إذا ما نجح نظام الأسد في البقاء وتحولت مصر إلي نظام إسلامي, فإن الولايات المتحدة وإسرائيل ستعانيان من عزلة متنامية, وسيتقلص نفوذهما في المنطقة وقدرتهما علي التدخل ووضع الأجندات. وفي هذه الحالة ستبقي تركيا اللاعب الأساسي في الشرق الأوسط, وهي التي تشعر باستياء شديد من سوريا وإسرائيل, ولا تريد رؤية إيران تهيمن علي المنطقة.
لكن رغم الصراع الواضح علي الشرق الأوسط وتضارب الأجندات الساعية إلي الهيمنة, تبقي نتائج الثورات العربية والطريق الذي ستسلكه دوله محددا أسياسيا في ترجيح كفة طرف علي الآخر, فالغرب من خلال أمريكا وإسرائيل يسعي إلي حفظ التوازنات القديمة وعدم انفلات الوضع الأمني والسياسي, فيما تريد إيران التمسك بأوراقها المعتادة التي يأتي علي رأسها النظام السوري, أما تركيا فترغب في العودة إلي المنطقة وتأسيس علاقات جديدة قد لا تكون سوريا حاضرة فيها. ومن هنا نفهم الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء التركي أردوجان إلي مصر وتونس وليبيا لإعادة التأكيد علي حضور تركيا ودورها المتنامي في المنطقة من خلال التواصل مع النخب الجديدة واستكشاف الأرضية القادمة في الشرق الأوسط.
ومع أن الربيع العربي أطلق العنان لمطالب الإصلاح المكبوتة لدي الشعوب, فإنه لا أحد يعرف إلي أين تتجه الأمور, وإن كان الثابت الوحيد هو استحالة العودة إلي الأساليب والطرق القديمة في إدارة المنطقة والرجوع إلي النهج المتداعي الذي أطر العلاقة بين الأنظمة والشعوب
واشنطن بوست