رحل عن عالمنا يوم 2009/10/8 الإنسان النبيل والمفكر المتفرد الأستاذ بيومي قنديل مواليد 1942 وهو صاحب مشروع فكري يدور حول القومية المصرية,منذ الثمانينيات من القرن العشرين بكتابهحاضر الثقافة في مصرورغم أنه وصف طه حسين بالرائد الكبير,فقد أختلف معه حيث لم يهتم بتعريف الثقافة القومية في كتابهمستقبل الثقافة في مصرأما الثقافة عند بيومي قنديل فهي تتأسس علي مفهوم الثقافة القومية التي هي مجموع انساق القيم التي أبدعها شعب من الشعوب عبر تاريخه الممتد,وليست لها علاقة بمفهوم الثقافة الأكاديمي ,وأن ثقافتنا القومية انعكاس للحضارة الزراعية التي أنتجت أهم القوانينالضميرلذا فإن ما أبدعه جدودنا من فنون وآداب وعلوم,ما هو إلا أحد تجليات هذه الحضارة الزراعية,وهؤلاء الجدود هم أول من وضعوا أسس الحضارة الإنسانية,فبجانب علوم الطب والهندسة إلخ وضعوا الأساس العلمي للتقويم الشمسي الذي قسم السنة إلي 12 شهرا بمجموع 365 يوما كضرورة حتمية تتفق مع مواعيد الزراعة,لذلك فإن الفلاح الأمي لايزال يحفظ شهور السنة القبطية= المصريةلأنها الأدق لمعرفة بداية بذر البذور ومتي يكون جني المحصول.
وأشار إلي ما كتبه برستيد من أن يوليوس قيصر هو أول من أدخل التقويم المصري إمبراطوريته ثم عم استعماله العالم ,وكما قدم جدودنا أول تقويم علمي للعالم,قدموا أول أبجدية,ونقل أ. بيومي ما كتبه برستيد من أن المصريين القدماء أخترعوا أقدم نظام كتابي,مكنهم من السيطرة علي طريق التقدم الطويل نحو الحضارة.ونقل ماكتبه اللغوي الكبيرسيمون بوترالذي كتبكافة الأبجديات في العالم تنحدر عن أصل مشترك واحد,فهذه الإبجديات جميعا اشتقت من الكتابة الصورية التي نشأت في مصروهي الحقيقة التي أكدها علماء متخصصون في اللغويات والمصريات أمثالجاردنر,ديفيد مادلينوآخرون.
وركز أ. بيومي علي محور التعددية التي ميزت الثقافة المصرية,فتعدد الآلهة في الأساطير المصرية,وتعدد الاحتفال بهم,ثم تبادل الاحتفال والاحتفاء,حيث كان أتباعرعيحتفلون مع أتباعأوزيروأتباع آمون يقدسون إيزيس إلخ,مثلما نشاهد احتفال القاهريين بالسيد البدوي واحتفال السكنريين بسيدي أبي الحجاج بالأقصر,واحتفال المصريين المسلمين بمولد السيدة العذراء ومولد سيدي ماربرسوم العريان بالمعصرة إلخ, تولد عن هذه التعددية قيمة الاعتراف بالآخر هي قيمة ما كان لها أن توجد في ظل ثقافة التفكير التي ابتدعها إخناتون عندما نادي بإله واحد وألغي جميع الآلهة السابقة وبالتالي كرس فكرة الوحدانية التي انتقلت إلي الديانات السامية .
وذكر أن الموالد تؤكد أن الثقافة المصرية ثقافة اتصال لا انقطاع فكتبإذا كان المصريون لا يزالون-دون سائر شعوب المنطقة-يقدسون المرأة ويسبغون علي السيدة زينب صفات إيزيس إلتهم العظميأم العواجز,الطاهرة,رئيسة الديوان,الستويضفون علي شقيقها الحسين صفات أوزير إمام الشهداء مفصول الرأس,فإن الاسم يكون قد تبدل ولكن الروح ظلت مصرية أصيلة وترتب علي هذه التعددية عدة سمات .
إن التسامح والوداعة من خصائص المجتمع المستقر الذي اكتشف الزراعة لأول مرة في التاريخ,فأصبح لديه الاكتفاء الذاتي .
إن التعددية جعلت هيرودت يصف المصريين بأنهمأتقي شعوب العالموبعده بعدة قرون يأتي سيجموند فرويد فيصف المصريين بـالودعاءبينما وصف الساميين بالهمج الغلاظ.
إن التعددية أقرت المساواة التامة بين المرأة والرجل في الحضارة المصرية ,وأن وضعها الاجتماعي والإنساني انحط بدرجة ملفتة للنظر بعد الاحتلال الروماني والعربي .
تولد عن التعددية الشعور بالشفقة,فذكر ما قصته عليه صديقة فلسطينية تعيش وتعمل في مصر حيث دخل بيتها يهود مصريون والأدق مصريون يدينون بالديانة الموسوية للتفتيش عند الاجتياح الإسرائيلي لبلدها غزة عام 1956 ودخول عراقيين يهود لبيت جارهم.وكانت الزميلة الكاتبة الفلسطينية صاحبة الرواية طفلة مدركة في ذلك الوقت وأن العراقيين اليهود ارتكبوا كافة الجرائم مع جارهم, في حين أن المصريين اليهود لم يمسوا شعرة من رأسها ولا قشة من بيتها.بل إن أحدهم طمأنها وهذا آخر روح جدة عجوز ضريرة همت بالوقوف قائلا بلغته التي لا نخطئها أذن في المنطقةماتخافيش ياأمي..خلي كي زي ما إنتيكما أن المصريين اليهود حرصوا علي وضع علامة علي البيت من الخارج نفيد أنه خضع للتفتيش,بينما لم يهتم العراقيون اليهود بوضع هذه العلامة,فكانت النتيجة أن بيت جارهم تعرض للتفتيش أكثر من مرة وكان تعليق بيومي أنهؤلاء وأولئك يدينون بنفس الديانة ولكن سلوكهم اختلف لسبب أرجو أن يكون واضحابالطبع هو يقصد الفارق الحضاري بين شعبين رغم اتحاد الديانة.
إمتد تأثير الثقافة المصرية ليشمل طريقة تجويد القرآن فذكر أن الشيخ محمد رفعت الملقب بقيثارة السماء كان يجود أو يغني القرآن من مقام نهاوند-ألفا,والشيخ مصطفي إسماعيل من مقام بياتي النوا-صول,والشيخ عبد الباسط عبد الصمد من مقام صبا-النوا-صول والشيخ محمد صديق المنشاوي من مقم سيكا-للي الخ.
وتفرد بيومي قنديل بدفاعه عن الأميين المصريين لأنهم هم من حملوا مسئولية اتصال الثقافة المصرية من جيل إلي جيل,بينما وقف المتعلمون مع الاستعمار الأنجلوأمريكي في خندق واحد لتعريب مصر,أي لتعميق تخلفها بدلا من تمصير المنطقة.لأن المصري الذي يخلو قاموس وجدانه وعقله من لغة تكفير الآخر المختلف,أكثر حضارة,وبالتالي أكثر إنسانية من المتعلم الكبير الذي سمح لضميره أن يترك للخبراء الأمريكان وضع مناهج التعليم للمصريين ,من ذلك ما ورد في كتاب الصف الثالث الإعدادي لعام 2000 إذ علي التلميذ أن يقرأ هذا السؤالما عقوبة الكافر؟وبالطبع عليه أن يعرف إجابته.وتكون النتيجة تخريج ملايين الإرهابيين الذين يقتلون كل مختلف مع معتقداتهم أو حتي نظرتهم لقيم المجتمع العصري المدني.وبالتالي فإن الأميين المصريين أفضل من المتعلمين الذين تتأسس معرفتهم علي العنف واستحلال أرواح وأموال كل مختلف مع أصوليتهم الدينية التي نعارض ونعادي آليات الدولة العصرية.
رأي بيومي أن خلاص مصر في الاعتزاز القومي,فالإيرانيون قبلوا الإسلام ولكنهم رفضوا العروبة,لذلك نجدهم يعتزون ويتمسكون بلغتهم وأساطيرهم وأسماء آلهتهم ويطلقون أسماء أكاسرتهم علي أطفالهم.وذكر أن حجة الإسلام حسين بهراز قالإيران أمي,أما الديانة المحمدية فزوجتي,قد أطلق هذه ولكنني لا أستطيع أن أطلق تلكوأيضا الشعب الفنلندي الذي تحرر من سيطرة الثقافة واللغة السويدية,بفضل دور المثقفين الذين بحثوا عن تراثهم القومي واستخرجوا منه الأساطير والأغاني,ثم التفافهم حول مشروع القس ميخائيل أجريكو لا الذي وضع أسس أبجدية فنلندية,ومثلما فعل الشعب الهندي الذي تمسك بثقافتة القومية إزاء ثقافة المغول الغازية,ومثلما فعل الشعب الإسباني العظيم عندما تحرر من الغزاة ,سواء كانوا عربا أو متعربين تحت قيادة ملكتهم العظيمة إيزابيلا الأولي.
وإذا كان طه حسين بدأ مشروعه بسؤالأمصر من الشرق الثقافي أم من الغرب الثقافي؟فإن مشروع أ. بيومي تأسس في سؤال: هل نحن المصريين عرب؟فإذا كانت ثقافتنا زراعية أسست الحضارة والتسامح بينما ثقافة الساميينعرب وعبريينرعوية تأسست علي الأعتداء واغتصاب حقوق وحريات وأوطان الآخرون,وإذا كانت الثقافة السائدة تساند الثانية ضد الأولي من هنا جاء الاختيار الدقيق لعنوان الكتابحاضر الثقافة في مصرأي إبراز وتجسيد المأساة التي يعيشها المصريون,حيث تتصارع علي أرضه وداخل عقله ثقافتان مختلفتان بل ومتناقضتان:ثقافة قوميةأي مصريةوثقافة أجنبيةساميةالأولي تتبدي في التحضر والاستقرار والثانية رعوية تتبدي في التخلف والغزو.وتساءل من سوف ينتصر:الزارع أم الراعي؟واعتمد في دفاعه علي منج علمي صارم وعلي وقائع التاريخ وما دونه المؤرخون العرب وعلي علمي المصريات واللغويات الذي قال عنه أنه أحد أرقي العلوم الإنسانية.
وعكس الجيل الرائدسلامة موسي,طه حسين الخالذي قاوم تعريب مصر,ولكنهم اتجهوا إلي البحر الأبيض المتوسط,فإن مصر عند بيومي قنديلبصفة أساسية أفريقية,والحضارة المصرية القديمة حضارة سوداء.والمصريون حاميون .حقا تطوروا وحقا تأثروا,لكنهم استمروا مصريين. وما كانوا ليذوبوا بل ذوبوا واستوعبوا ومصروا.لسبب بسيط أنهم الأعظم حضارة ولم يكن هوراس شاعر الرومان ومؤرخهم يكتب عبارة خلابة إذ كتب Capti captivus cepurent لقد أسر المأسورون الأسرينبل وضع قانونا إنسانيا يصدق علي اليونان والرومان مثلما يصدق علي سائر المتحضرين عندما يغزوهم الأقل منهم حضارة تبعا لذلك رأي أن المصريين لن يقيموا مصريتهم إلا إزاء العروبة التي تحاول منذ 14 قرنا أن تسلب وتزور وتدمر المصرية,بصفتهاعقلا متعددا ووجدانا مرهفا وروحا عاشقة للحياة وضميرا حيا يسعده أن يعطي وأن يبهج وأن يضمد وأن يواسي.ولإقامة المصريين لمصريتهم ضرورة مزدوجة:أن يزدهر وأن تزدهر الشعوب المتاخمة لهم.عوضا عن أن يتخلفوا مع المتخلفين ويسير الجميع في طريق الإندثار.وهذا لن يتحقق إلا إذا ساهمنا في تحرير كافة القوميات والجماعات القومية في منطقتنا كالمصريين والبربر والنوبيين والسيويين والبجاويين والأكراد,بل واليمنيين والحجازيين أنفسهم من وطأة العروبةتماما مثلما نأمل في تجاوز الإسرائيليين لساميتهم,أي نقل الجميع إلي مرحلة أرقي ,فالأرقي أكثر غيرية أي أكثر إنسانية والمتخلف أشد ظلما وقهرا واستبدادا أي أبعد عن الإنسانية,وأن نسترشد بتجارب الشعوب التي نفضت عن كاهلها الثقافات الأجنبية الخانقة لثقافتها القومية.
كان الراحل الجليل إنسانا نبيلا ومفكرا متفردا,ورغم أن كثيرين في الثقافة المصرية السائدة اعترضوا علي مشروعه الفكري,إلا أنه لاتوجد دراسة علمية واحدة توضح أسباب هذا الاعتراض.
E.mail:[email protected]