لم تكتس المناظرة الرئاسية الثالثة في الانتخابات الأمريكية أي أهمية تذكر لجهة تحديد مواصفات كل مرشح ونقاط قوته, فبصرف النظر عن الأمور التي كشفتها المناظرة, فقد ظلت متواضعة عموما في تعاطيها مع التحديات
لم تكتس المناظرة الرئاسية الثالثة في الانتخابات الأمريكية أي أهمية تذكر لجهة تحديد مواصفات كل مرشح ونقاط قوته, فبصرف النظر عن الأمور التي كشفتها المناظرة, فقد ظلت متواضعة عموما في تعاطيها مع التحديات المطروحة.
ولعل ما أضافته المناظرة الثالثة هو تأكيدها أن الولايات المتحدة ما زالت تائهة فكريا تتقاذفها أمواج عاتية بين البحر المتوسط ومياه الخليج العربي, هذا في الوقت الذي تواصل فيه أمريكا علي الصعيد العالمي احتكاكها الخطر مع روسيا, وربما حتي مع الصين التي تستعد للدخول في أزمات خارجية وداخلية.
والأكثر من ذلك جاءت المناظرة الرئاسية الأخيرة لتسلط الضوء علي مأزق القيادة الذي تعيشه أمريكا, فالرئيس أوباما دخل البيت الأبيض من موقعه السابق كرجل أكاديمي يدرس القانون في الجامعة, ومن خلفية اجتماعية جاءت به من المجتمع المدني حيث كان منخرطا في شيكاغو, وبالطبع ليس ذلك خطأه, إذ من منا سيرفض فرصة قيادة أمريكا فقط لأن مواصفاته لا تنسجم مع حجم المسئوليات ولا تناسب المهام المنوطة بالمنصب؟
فالرئيس يستطيع التعلم وهو في منصبه, كما أنه محاط بجيش من الخبراء المحترفين, لكن مع ذلك ليس من السهل إدارة قضايا السياسة الخارجية لدولة عظمي مثل أمريكا, ولا يمكن التعامل معها كما لو أنها تخصص أكاديمي يدرس في الجامعة.
هذا المأزق في القيادة الذي تشهده أمريكا منذ عدة سنوات هو ما ندفع ثمنه حاليا في أفغانستان وباكستان, وفي هذا السياق سلم أوباما نفسه تماما للقادة العسكريين في أفغانستان عندما تولي مهامه, حيث سأل ضباطه في لقائه بهم بكابول عن الحل متسائلا ##ما هي الخطة؟ فأجاب العسكريون: الزيادة في عديد الجنود, ورفع عدد المدنيين من خبراء إعادة الإعمار, وإقامة جيش أفغاني قادر علي تحمل المسؤوليات الأمنية, وتعزيز حكومة ديموقراطية, وعندما سمع أوباما مقترحات الجيش وافق فورا بعدما بدت له التوصيات منطقية.
لكن ولدي سؤاله عن توقيت الانتهاء من كل ذلك كانت الإجابة غامضة, وفيما كانت انتخابات 2012 تقترب والضغوط تتزايد علي أوباما أعلن, وبصرف النظر علي التقديرات السابقة, أنه سيتم سحب الجنود أواخر 2014, وإن كان رأيي الخاص يقول بأنهم سيعودون إلي الوطن قبل ذلك, رغم التعقيدات والبطء المرتبط بحزم الأمتعة وفك المدن والمعسكرات التي يقيمها الجيش الأمريكي عادة في الخارج لإصراره علي استنساخ مدن أمريكية بكاملها داخل القواعد العسكرية, ناهيك عن مصاعب الطريق وهجمات ##طالبان##.
والأمر لا يختلف عندما نتحدث عن افتقاد القيادة بالنسبة لـ ##رومني## الذي لا يعرف عن الأمور العسكرية والاستراتيجية أكثر مما يقرأ في الجرائد, فقد عبر عن أسفه لإضاعته فرصة المشاركة مع زملائه في حرب فيتنام والقتال في حقول الأرز التي سقط فيها الجنود الأمريكيون. ففي ذلك الوقت كان ##رومني## مركزا أكثر علي أنشطته الأخري وحصل علي إعفاء من التجنيد الإجباري لأنه كان في الجامعة, ومرة أخري علي إعفاء ثان عندما كان يقضي فترة تطوعية في فرنسا كمبشر للعقيدة المرمونية, حيث تعلم اللغة الفرنسية, وهو الأمر الذي لا يتم الحديث عنه في الحملة الانتخابية.
وحتي يثبت رومني نفسه في السياسة الخارجية انتقد أوباما لأنه جعل أمريكا تبدو ضعيفة, متعهدا أنه في حال دخل البيت الأبيض سيتخذ الإجراءات الضرورية كي تظهر أمريكا في أعين أعدائها من الإرهابيين, وخصومها في الصين وروسيا بأنها القوة العالمية التي لا يمكن التلاعب معها, وهكذا سيعيد رومني الجنود الأمريكيين من أفغانستان فقط بعدما يؤكد الجنرالات بأن ##طالبان## لم تعد خطرا, وبأن كابل تحولت إلي حليف صلب لأمريكا علي غرار بغداد, بل الأكثر من ذلك لن يضرب إيران إلا إذا عبر نتنياهو عن الحاجة لذلك.
لكن لا أحد من المرشحين اهتم بإطلاع الأمريكيين عن رؤيته لدور أمريكا العالمي في المستقبل, والأهداف التي يتعين بلوغها للحفاظ علي مكانتها, فقد كان الهدف المحدد سلفا في عهود سابقة أن تحافظ أمريكا علي نظام عالمي يسوده السلام والاستقرار, كان ذلك في بداية القرن العشرين عندما بسط وودرو ويلسون مبادئه المعروفة, والتي رغم محاولاته الدؤوبة لإنجاحها ووضعها كهدف أمريكي أسمي فإنها واجهت رفضا مستميتا من الكونجرس الذي أسقط تجربة عصبة الأمم, وبعد تجربة ويلسون جاء دور فرانكلين روزفلت الذي أطلق نفس المشروع مع الأمم المتحدة بعد صياغته في وزارة الخارجية, هذه المؤسسة التي تحولت اليوم, حسب المسئولين الأمريكيين, إلي عائق أمام المصالح القومية لتمسكها بالقانون الدولي علي حساب الرغبات الأمريكية, وما أن انتهت الحرب الباردة حتي كان بوش الأب يتحدث عن النظام العالمي الجديد القائم علي السيادة الأمريكية, لكن سرعان ما جاء ابنه إلي السلطة لينهي ذلك العهد ويدخل أمريكا في مرحلة من الحروب ما زالت تدفع كلفتها حتي اليوم, فما الذي يطرحه المرشحان الحاليان, سواء رومني, أو أوباما من مشاريع لمستقبل أمريكا؟.
الحقيقة أن ما رشح من أحاديثهما لا يتعدي الحفاظ علي أمريكا في المرتبة الأولي عالميا, وهو ما يبدو أنه ينحصر في منع الصين, أو معاقبتها إن استمرت في المطالبة بتايوان, أو بالجزر المحيطة بها, ومراقبة النفوذ الروسي في آسيا الوسطي والقوقاز ودول البلطيق, كما يعني أيضا دعم سياسة إسرائيل التوسعية في الأراضي الفلسطينية, والحفاظ علي الانتشار العسكري الأمريكي في مناطق عدة من العالم يتيح لها التدخل لاستهداف الأشخاص والجماعات, وأحيانا ضرب أهداف سيادية في العالم الإسلامي, ناهيك عن منع, ما أمكن ذلك, الانتشار النووي, وهي الاستراتيجية التي لا تعني في النهاية سوي مواصلة سياسة الحرب المفتوحة لأجل غير محدد.
واشنطن بوست