بالحقيقة نؤمن بإله واحد…
إيها الإخوة المواطنون…يا أبناء النيل…يا أبناء مصر…وهي أعرق وأقدم حضارة وأجمل بلاد العالم, وصفها الكتاب المقدس قائلاكجنة الرب كأرض مصر (سفر التكوين 13:10) وصفها عمرو بن العاص فاتح مصر في كتابه الذي أرسله إلي الخليفة عمر بن الخطاب يصف فيه مصر اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر تربة غبراء, وشجرة خضراء…يخط وسطها نيل مبارك الغداوات ميمون الروحات,(تجري فيه الزيادة والنقص كجري الشمس والقمر…)ثم يقول..فبينما مصر (يا أمير المؤمنين) لؤلؤة بيضاء, إذا هي عنبرة سوداء, فإذا هي زمردة خضراء, فإذا هي ديباجة رقشاء, فتبارك الله الفعال لما يشاء… فلما ورد هذا الكتاب علي الخليفة عمر قال:لله درك يا ابن العاص, لقد وصفت لي خبرا كأني أشاهده.
وإني أعترف لكم أنني مثل الكثيرين منكم زرت بلادا كثيرة في أوربا وفي أمريكا وفي أفريقيا وفي آسيا…وأقمت في بعضها شهورا وفي بعضها سنوات…ووجدت أن لكل بلد جمالها ولكل بلد ميزته. أما مصر فلم أجد أجمل منها ولا أحلي منها…لست أقول هذا لمجرد أنني مصري يعتز بوطنه وبلده, أو كما يقولونيحن الطير إلي وكره الذي درج منه…وليس فقط لأن في مصر أهلي وأقربائي وفيه تاريخ حياتي وحياة أهلي…لكن مصر عندي فوق هذا كله بلد حباه الله بطبيعة وتربة ومناخ وجو ليس له نظير في العالم…ومن أجل هذا كانت مصر دائما مطمع الغزاة…لكنها أيضا كانت دائما ملاذا وموئلا ومهربا لكل مضطهد ومظلوم وغريب ولاجئ يطمع في كرم ضيافتها, وسماحة أهلها, وطيبة شعبها, وخصوبة أرضها…هرب إليها إبراهيم رئيس الآباء(وكبير الأنبياء), وقصدها إسحق, ويعقوب, ويوسف الصديق, وبنو إسرائيل, وولد فيها موسي رئيس الأنبياء, وهرب إليها إرميا وعدد من الأنبياء, جاءها يسوع المسيح له المجد طفلا مع أمه العذراء الطاهرة مريم…هربا من وجه(هيرودس) الطاغية. وكان في مقدوره أن يخسف به الأرض,لكنه اتخذ من شر هيروس تبريرا لأن يجئ إلي مصر ويبارك أرضها وشعبها مبارك شعبي مصر(إشعياء 19:25).
إيها الإخوة المواطنون…
ليس ما قلناه الآن مجرد مقدمة أو مدخل لموضوعنا الذي اجتمعنا من أجله, وإنما هو المناخ الذي عشناه في مصر, بلدنا, بلد المسلمين والمسيحيين علي السواء. لقد عبر الرئيس السادات تعبيرا صادقا وأمينا ودقيقا حين قال:إن الإقباط من نسيج هذا البلد, ولذلك أحببت هذا التعبير لصدقه, ونحن نشكره عليه, ونحمده له. وقال الدكتور طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة:الكنيسة القبطية مجد مصري, قديم… ولقد قال الرئيس السادات في مرة سابقة:أرض واحدة تقلنا, وسماء واحدة تظلنا وهذا أيضا تعبير جميل ونبيل بقدر ما هو صدق وحق…ويعزي للرئيس السادات فضل لن ننساه أبدا, وأؤمن أنه سيظل هذا الفضل منسوبا إليه إلي أجيال تالية. لقد وصف الرئيس السادات مصر كلها ووصف المصريين جميعا بتعبير بسيط لكنه حلو وعذب إذ قال: إنهم عائلة واحدة, ورئيس الجمهورية هو كبير هذه العائلة. إني معجب كل الإعجاب بهذا التعبير البسيط, وحقا إن أصدق المبادئ هو أبسطها, وكما يقول الفلاسفة إن الله هو البسيط الأول…ويتصل بهذا التعبير البسيط ويقترب منه أن الرئيس السادات أعلن في كثير من المناسبات أنه يريد لمصر وللمصريين أن يعيشوا معا مجتمع القرية بأخلاقياته وسماحته وفضائله إخوة متحابين يجتمعون معا في الخير والشر في السراء والضراء يفرحون معا, ويبكون معا, هم جسم واحد إذا اشتكي منه عضو سهرت معه سائر الأعضاء بالسهر والحمي.
أيها الإخوة…
أنا قبطي مسيحي, تلقيت تعليمي كله في مدارس حكومية. تعليمي الابتدائي ثم الثانوي, والعالي الجامعي. وأذكر أنني عشت فيها فترة سعيدة لم أشعر بتاتا بفارق بين مسلم ومسيحي.كانت المحبة تجمع بيننا, والزمالة والصداقة تضمنا. وبعد أن افترقنا كان الواحد منا يلقي أخاه المسلم أو المسيحي بالأحضان والقبلات الصادقة, ونتصافح بأشواق عارمة حقيقية.
وكذلك رأينا من المعلمين قدوة صالحة, فلم يكن المسيحي يحس بالفارق بينه وبين أخيه المسلم في جو المدرسة.كان ناظر المدرسة وجميع المدرسين يعاملوننا كأبناء.فإذا أشاد الناظر بطالب وكافأة بجائزة, أو أثني المعلم علي تلميذ أو إذا عاقبه فلم يحدث مرة واحدة أننا شعرنا أن هذا التلميذ أو ذاك وكافأه لأنه مسلم أو عاقبوه لأنه مسيحي. لم يكن حتي هذا الفكر يخطر ببال أحد منا, ولم نكن نسمع من ناظر أو معلم أو ضابط, أو أحد ما علي الإطلاق شيئا من هذا القبيل. وكان كل الفارق هو حصة الدين. فالمسيحي يتلقي تعاليم دينه في غرفة, في نفس الوقت الذي يتلقي المسلم تعاليم دينه في غرفة أخري. وفيما عدا ذلك يلتئم شمل الإخوة الزملاء في غير ذلك من دروس…
إنه ليصعب علي كثيرا أن أحصي أصدقاءنا من المسلمين من بين من زاملناهم في التعليم الثانوي أو الجامعي وفي الحياة العملية…
أيها الأخوة…
شكرا لمجلة الطليعة التي نشرت أثناء الحرب اللبنانية ثلاث وثائق متبادلة بين بن جوريون وبعض وزراء إسرائيل يقول بن جوريون في واحدة منها: نحن-الإسرائيليين -لا نستطيع أن نبقي صامتين, بل ينبغي أن نحرك الأحداث في صالحنا…ثم يقول فلنترك مصر الآن لأن المسلمين والأقباط متفاهمون متحابون ولنبدأ بلبنان. فنعمل علي أن الموارنة يطالبون بدولة بدولة مارونية, والسنة يطالبون بدولة سنية, والشيعة يطالبون بدولة شيعية والدروز يطالبون بدولة درزية.
وما اقترحه(بن جوريون) من مدة تزيد علي عشرين سنة, قد تم في لبنان..لكن(بن جوريون) قال: فلنترك مصر الآن لأن المسيحيين والمسلمين فيها متفاهمون متحابون, ولنبدأ بلبنان…ولهذا السبب كان كثيرون من خارج مصر يتساءلون أثناء الحرب اللبنانية(وما الحال في مصر؟) وقال بعض أدبائنا وكتابنا علي صفحات جريدة الأهرام إن الناس في الخارج, وخصوصا السياسيين, وأهل المخابرات أو الاستخبارات الأجنبية يتساءلون: ما الحال في مصر بين الأقباط والمسلمين؟
إيها الإخوة المواطنون:لست أجد كلاما اختتم به كلمتي اليوم أفضل من بعض عبارات قلتها يوم أحرق الإسرائيليون المسجد الأقصي في 21من أغسطس(آب) لسنة 1969 ودعيت لألقي كلمة الكنيسة المصرية في مؤتمر جامعة الأزهر, وعلي رأسها فضيلة الشيخ الأستاذ أحمد حسن الباقوري-والأستاذ الدكتور عبد العزيز كامل وزير الأوقاف وشئون الأزهر- وذلك بقاعة الإمام محمد عبده بجامعة الأزهر في 25 من أغسطس سنة 1969, 12 من جمادي الآخرة لسنة 1389هـ ,قلت:
في هذا اليوم المشئوم الذي دوت فيه الأنباء الحزينة بحريق المسجد الأقصي, أحسست -وأنا واحد من بين أعضاء هذه الأمة الكريمة, ومن بين أفراد هذا الشعب الأصيل-بأن طعنة قد نفذت إلي شغاف قلبي. فإن هذا المسجد الأقصي يمثل حضارة, ويمثل تاريخا, ويمثل سماحة…ويمثل عزة…ويمثل كرامة.
علي أن الخطر الذي يمثله حريق المسجد الأقصي هو أقصي الخطر. ولا يمكن لعاقل في الشرق كله أن يتصور أن إسرائيل بعيدة عن المسئولية المباشرة في هذا الحدث المنكر.
ولقد عبر بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل السابق عن حلم إسرائيل هذا في عبارته المشهورةإنه لا معني لإسرائيل بغير القدس, ولا معني للقدس بغير الهيكل.
من مدينة القدس, ومن فوق المكان القائم عليه المسجد الأقصي, ومسجد قبة الصخرة يحلم الصهاينة أن يحكموا ليس الشرق الأوسط وحده, بل يحملون بحكومة يهودية إسرائيلية عنصرية تحكم الشرق والغرب.
هذا هو الخطر الذي ينبغي أن ننتبه له لنعرف كيف نقابل أطماع إسرائيل الصهيونية, وكيف نواجه محاولاتها ومخططاتها.
وليس هناك شئ أقوي وأعظم من أن نعتصم بقوة الله, وأن نكون نحن جميعا-أبناء هذا الوطن-متآزرين متحابين متضامنين متآخين, متكاتفين, فلا ندع للعدو منفذا يسعي بالفرقة والانقسام بيننا, ولا نترك له سبيلا ليزرع بذور الفتنة بيننا ولا نخلي له مجالا لإيجاد البغضاء أو إثارة أي خلاف فيما بيننا.
فإنه في كل موقف كان المسلمون والمسيحيون يدا واحدة قد خدموا هذا البلد, وخدموا الشرق الأوسط كله, واستطاعوا أن يحققوا بالوحدة والمحبة والسلام والتعاون خيرا كبيرا وفضلا عظيما. ولكن في الوقت الذي يعطون فيه الفرصة لمن يفسد هذه الوحدة المقدسة, وهذا التعاون والتكاتف بينهم, فإن النكبة تكون عظيمة.
ولقد قال السيد المسيح مرة:كل مملكة تنقسم علي ذاتها تخرب,وكل مدينة أو بيت ينقسم علي ذاته لا يثبت(مت12:25) وهذا النطق القدسي يصلح لكل زمان, ويصدق علي ظروفنا نحن في هذا الشرق.
فإذا كنا يدا واحدة ومحبة واحدة متضامنين, متعاونين متآزرين, يد الواحد منا بيد الآخر, فأبشر بالخير لهذه الأمة وأبشر بمستقبلها, وأبشر بقوتها وقدرتها. إننا بالله وبالمحبة والتعاون نحطم أعداء السلام, ونضع حدا للمؤامرات.
فقط علينا نحن أن نكون مع الله وأن نكون مع أنفسنا, وأن نظل دائما إخوة متحابين متضامنين متعاونين لصد الخطر الواحد, ومقاومة العدو الواحد, وإذا كان الله معنا فمن يكون علينا(رومية 8:31).