لم ترزح المملكة المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية تحت هذا العبء الهائل من المشاكل السياسية والدستورية والاقتصادية والعسكرية والجغرافية الاستراتيجية المستعصية.
وضعت النتائج غير الحاسمة للانتخابات العامة التي أجريت في 6 مايو الجاري والتي لم يفز فيها أي حزب بالأكثرية المطلقة, هذه المشاكل كافة تحت المجهر, ما أثار قلق الطبقة السياسية برمتها. وتحدث زعيم حزب المحافظين ديفيد كاميرون, الذي أسف لعدم تحقيق انتصار كان يعتقد أنه في متناول يده, عن وجود نظام سياسي متصدع.
غير أن المفاجأة غير المتوقعة تمثلت في إمساك زعيم الحزب الديموقراطي الليبرالي نيك كليج بتوازن القوي بين حزب العمال وحزب المحافظين. فحاز الديموقراطيون الليبراليون علي 23 في المئة من الأصوات, إلا أنهم لم يحصلوا الا علي 57 مقعدا في مجلس العموم, أي أقل من عشر أعضاء المجلس, الأمر الذي يدل بوضوح علي عدم عدالة النظام الانتخابي الحالي الذي يقوم علي فوز المرشح الذي يحصل علي اعلي نسبة من الاصوات, مهما كانت هذه النسبة.
لهذا السبب, لجأ الحزب الديموقراطي الليبرالي إلي تنظيم حملات متعددة علي مدي عقود من أجل اعتماد نظام انتخابي يقوم علي التمثيل النسبي. ويبدو أن هذا الحزب في صدد المطالبة بإجراء هذا التغيير الجذري أو أقله إجراء استفتاء حول هذه المسألة. فبطريقة أو بأخري, بات نظام الحزبين, الذي طالما ساد السياسة البريطانية لوقت طويل, في حكم الميت, الأمر الذي أدي إلي اعتماد سياسة الائتلاف!
لا يطالب الحزب الديموقراطي الليبرالي باعتماد التمثيل النسبي فحسب بل يريد تطوير علاقات أوثق مع أوروبا من العلاقات التي يطمح إليها حزبا المحافظين والعمال. كما أن هذا الحزب يبدي تسامحا أكبر تجاه الأقليات الإثنية ومثليي الجنس ويسعي إلي تقليص الاعتماد الكبير علي الولايات المتحدة.
لقد عارض الحزب الحرب التي شنها حزب العمال في العراق والتي وصف علي أثرها رئيس الوزراء حينها توني بلير بأنه كلب أميركا المدلل. إلا أن حزب المحافظين دعم بدوره هذه الحرب. وكان الحزب الديموقراطي الليبرالي الحزب الوحيد الذي تصرف بطريقة مناسبة حيال هذا الموضوع. وهو اليوم يعارض الحرب في أفغانستان ويريد أن تنسحب القوات البريطانية منها في أسرع وقت ممكن. ويطرح اعتماد هذا النوع من السياسات الجذرية مشكلة كبيرة أمام شركاء الحزب الديموقراطي الليبرالي في الائتلاف الحكومي.
غير أن الأزمة المالية الحادة التي تعاني منها بريطانيا تطغي علي الخلافات كافة المرتبطة بالسياسات. ويقارب العجز الهائل في الموازنة الـ 170 بليون جنيه إسترليني بحلول عام 2010 – 2011 أي حوالي 11 في المئة من الدخل القومي. وإن لم تكن بريطانيا ترغب في معاناة تجربة اليونان المريرة التي طلبت ذليلة من شركائها في الاتحاد الأوروبي ومن صندوق النقد الدولي مساعدتها, فعليها أن تفرض تخفيضات كبيرة علي نفقات الحكومة. ولا شك في أن الضمانات الاجتماعية والقطاع العام سيكونان في مقدم الضحايا.
بالتالي, ستتقلص الفوائد التي يحصل عليها كبار السن والمرضي والعاطلون من العمل وسيتقلص عدد موظفي الحكومة وعدد اساتذة المدارس وعدد الممرضات في المستشفيات. كما سيتم إرجاء المشاريع الأساسية الخاصة بالبني التحتية إلي يوم آخر وسيتم رفع الضرائب. لم تعد بريطانيا بلدا ثريا بعد الآن. وينبغي عليها أن تخفف مصاريفها ليس لبضعة أشهر فحسب بل لعدة سنوات مقبلة.
هل يمكن حصول ذلك من دون حدوث اضطرابات اجتماعية وإضرابات وصراع بين الطبقات الاجتماعية ومناوشات في الشارع؟ تتشارك بريطانيا في هذا المشهد القاتم مع إسبانيا والبرتغال وإرلندا وفرنسا وبالطبع اليونان حيث أدت الأزمة إلي بروز وضع شبه ثوري.
تنظر بلدان مثل السويد وهولندا وألمانيا علي وجه الخصوص, التي تحرز جميعها نجاحا اقتصاديا, بازدراء شبه متخف الي البلدان التي فشلت في ضبط موازنتها واتخذت خيارات اقتصادية خاطئة. ولا يحبذ الألمان إنفاق الأموال التي تعبوا في جنيها علي دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي أقل فاعلية منهم. فعندما خضعت المستشارة الألمانية أنغيلا مركل للضغوط الدولية ووافقت علي مضض علي مساعدة اليونان, تمت معاقبتها خلال الانتخابات المحلية التي أجريت في الأسبوع الماضي في مقاطعة نورث راين ويستفاليا. إذ مني حزب ميركل المسيحي الديموقراطي بخسارة كبيرة, الأمر الذي أدي إلي خسارتها الأكثرية في المجلس الأعلي في البرلمان.
ولعل الصدمة الكبيرة التي تواجه الشعب البريطاني تكمن في أن الأزمة المالية تدل علي أن بريطانيا لم تعد قوة عظمي. وعلي رغم أن التراجع في سلطة بريطانيا بدا واضحا علي مر العقود الأخيرة, إلا أن معظم الشعب لم يعر هذا الأمر اهتماما. كانت سلطة بريطانيا تتراجع منذ المحنة المضنية والمكلفة التي خبرتها خلال الحرب العالمية الثانية وإثر عملية تصفية الاستعمار التي تلتها. وساهمت الانتخابات التي أجريت في بداية هذا الشهر في توضيح ملامح المشهد لا سيما أن الوقت قد حان لمراجعة الأمور.
لم تتفوق ألمانيا فحسب علي بريطانيا بل تبعد عنها الاضواء ايضا كل من الصين والهند وروسيا والبرازيل والولايات المتحدة طبعا التي بدأت تسجل معدل نمو جيد وصل إلي 3.5 في المئة وتتيح فرصا متعددة للعمل. وسيترتب علي بريطانيا التي لا تزال تعاني من الركود أن تتأقلم مع موقع متواضع في عالم يتغير بسرعة.
شكلت حرب العراق خطا فاصلا. فكانت بمثابة عمل امبريالي كارثي شاركت فيه الولايات المتحدة تحت ضغوط المحافظين الجدد الموالين لإسرائيل وارتكبت بريطانيا خطأ كبيرا في الانضمام إليه. وبدت هذه الحرب مكلفة أكثر من حرب السويس التي شنت عام 1956 ضد جمال عبدالناصر في مصر. ففي ذلك الوقت انضمت كل من بريطانيا وفرنسا إلي إسرائيل في الحرب التي شنتها ضد حاكم عربي بعد أن تم إقناعهما بأن هذا الأخير يشكل خطرا علي مصالحهما. وتسبب فشل حرب السويس بتراجع فادح في تأثير بريطانيا في الشرق الأوسط كما يحصل اليوم بسبب حرب العراق.
يرغب الحزب الديموقراطي الليبرالي في خروج بريطانيا في أسرع وقت ممكن من أفغانستان التي تعتبر مغامرة امبريالية فاشلة. فلا يساهم قتل المسلمين في أفغانستان وباكستان سوي في تأجيج غضب المسلمين وفي استقدام التوترات من جنوبي آسيا إلي بريطانيا وأميركا. وتمثل الدليل علي ذلك أخيرا في محاولة الشاب الباكستاني – الأميركي فيصل شهزاد تفجير سيارة مفخخة في ساحة التايمز في نيويورك.
وستكون القوات المسلحة عرضة ايضا لعملية التوفير في النفقات. وتبعا لذلك ينتظر أن يتقلص عدد حاملات الطائرات والغواصات النووية والطائرات النفاثة السريعة وعدد أفراد الجيش البريطاني الصغير أصلا. كما يجب أن تتم مناقشة ما اذا كانت بريطانيا قادرة علي تحمل تكاليف قوة ردع نووي مستقلة. وتشكل هذه احدي النتائج الجيوسياسية المترتبة علي هذه الأزمة.
يجب علي حكومة بريطانيا المقبلة أن تعالج هذه المجموعة الكبيرة من المشاكل. وما يجعل الأمر أكثر صعوبة هو عدم تمتع أي حزب بالقوة الكافية لفرض آرائه علي البرلمان وعلي البلد. في انتظار بريطانيا إذا مرحلة طويلة من التسويات القاسية التي من شأنها توجيه ضربة إضافية إلي نفوذ بريطانيا وصورتها.
ويكمن المخرج من الأزمة في أن تقوم أوروبا بتخطي مشاعرها القومية الضيقة والتوحد من أجل تشكيل قارة قوية قادرة علي موازاة ثروة وسلطة الولايات المتحدة والصين والبلدان الصاعدة الأخري. لكن من المستبعد أن يختار البريطانيون علي رغم نقاط قوتهم وضعفهم حلا جذريا مماثلا.
* كاتب بريطاني متخصص في قضايا الشرق الاوسط
عن الحياة اللندنية