فاجعة بورسعيد التي روعت مصر كلها وتصدرت نشرات الأخبار العالمية ستظل علامة سوداء في تاريخ مصر وثورة يناير,ومهما كشفت التحقيقات وتقارير تقصي الحقائق عن
فاجعة بورسعيد التي روعت مصر كلها وتصدرت نشرات الأخبار العالمية ستظل علامة سوداء في تاريخ مصر وثورة يناير,ومهما كشفت التحقيقات وتقارير تقصي الحقائق عن خطط إجرامية أو مؤامرات مدبرة لن تستطيع إخفاء الوجه القبيح البربري لشريحة من هذا الشعب أصبحت تشكل جزءا كئيبا من واقعنا اليومي, وللأسف هي متروكة ترتع وتعيث فسادا دون رادع أو عقاب.
يتساءل الكثيرون:ماذا حدث للشخصية المصرية؟…ماهذا التحول المخيف إلي العنف؟…أين الأصالة والوداعة والشهامة؟…وأقول:قد تكون الشخصية المصرية تعاني تحولات مؤسفة نحو الشر-ولذلك أسبابه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية-لكن هذا غير مقصور علي الشخصية المصرية وحدها,والشر كامن في أعماق النفس الإنسانية في سائر المجتمعات والشعوب والدول,لكن العبرة في درجة انفلاته وشيوعه تبقي مرهونة بالقدرة علي تحجيمه وترويضه بالقانون…القانون الذي نظم المجتمعات الإنسانية وضبطها وترقي بها فوق سائر مجتمعات الحيوان التي تحكمها الفطرة دون العقل.
إذا في الوقت الذي نتمني أن ينضبط فيه مجتمعنا ويتحضر عبر إصلاح التعليم وتنمية الاقتصاد وترسيخ الحقوق والمساواة والعدالة الاجتماعية,نعرف أن ذلك طريق طويل يجب أن نبدأه ويحتاج منا عقودا لنقطعه ونجني ثماره,لكن سلاحنا الذي لابديل عنه الآن وكل أوان هو حتمية تطبيق وتفعيل القانون وقدسية الذود عن كرامة المجتمع وهيبة الدولة…هذا السلاح إذا أهملناه وتراخينا في إعلائه هوي مجتمعنا إلي أسفل مستويات الفوضي والانفلات والشر والعنف ليتحول إلي غابة ترتع فيها مخلوقات بربرية تطيح ببعضها البعض والبقاء فيها للأقوي.
ويؤسفني أن أقول إن ذلك حالنا بعد ثورة يناير…هذه الثورة العظيمة التي أدهشت العالم وحازت إعجابه تحولت إلي وحش كاسر أفلت من عقاله وانطلق يدمر في بلدنا ويزداد توحشا يوما بعد يوم بفضل غياب الأمن والقانون والردع.كارثة ثورة يناير التي لم تكشف أسرارها بعد هي عملية الانسحاب الأمني الكاسح من جميع أرجاء مصر وإطلاق كل أشكال الإجرام وكأنها خطة محكمة مدبرة لمعاقبة المصريين علي إسقاطهم نظام الحكم وجهازه الأمني الرهيب…وبعد أن أفاق المصريون من ذهولهم وتجاوزوا رعب الغياب الأمني واجتياح المجرمين والغوغاء والإرهابيين شوارع المدن والقري في إعصار من السلب والنهب والقتل والترويع,تطلعوا إلي قواتهم المسلحة لتفرض سيطرتها علي الأمور وتستعيد الأمن والأمان,هذه القوات المسلحة التي نزلت الشارع لحماية الثورة وانحازت بكرامة إلي الشعب وقطعت علي نفسها عهدا بعدم ضرب المصريين تعلقت بها الآمال لإنجاح الثورة وحمايتها حتي تجتاز المرحلة الانتقالية في إعادة تشكيل الدولة المصرية علي أسس ديموقراطية ومدنية تضمن الحرية والعدالة الاجتماعية لكل مواطن مصري بغض النظر عن مستواه الاقتصادي أو موقعه الاجتماعي أو انتمائه السياسي أو جنسه أو دينه.
وغني عن القول أن ثقة المصريين في قواتهم المسلحة والمسئولية المعقودة عليها في ذلك الإطار كانت منصبة علي مجلسها الأعلي الذي انتقلت إليه سلطة تسيير شئون البلاد عقب تنحي الرئيس مبارك ومباشرة تفعيل وتنفيذ خريطة الطريق إلي التحول الديموقراطي وحتي تسليم السلطة إلي سلطة مدنية ذات شرعية دستورية…استراح السواد الأعظم من المصريين لقيادة المجلس الأعلي للقوات المسلحة زمام الأمور ولم يلتفتوا إلي حملات التشكيك في نواياه أو موجات اتهامه بالتخطيط للاستيلاء علي السلطة ورأوا في الباقة الأولي من بياناته وتصريحات أعضائه قدرا مريحا من القوة والصرامة والإصرار علي العبور الآمن بمصر إلي الاستقرار.
لكن سرعان ما تغيرت الأمور وتوالت أحداث العنف والانفلات وخرق القانون بشكل متواتر مقلق,وظهرت تيارات سياسية ودينية تنافس الفلول الإجرامية في تهديد وترويع المصريين,وتطلع المصريون إلي هذا المجلس الأعلي للقوات المسلحة-في ظل استمرار الغياب البوليسي والأمني-للضرب بيد من حديد علي أيدي الخارجين علي القانون والمتطرفين والإرهابيين وللذود عن سيادة الدولة وهيبتها,لكن للأسف الشديد خذلهم المجلس الأعلي وتقاعس عن ذلك وفشل في إحكام قبضته علي زمام الأمور متعللا بأنه قطع علي نفسه عهدا بألا يضرب المصريين!!!…لكن الحقيقة المرة باتت واضحة أن ذلك العهد انعكس علي عدم ضرب المجرمين والمنفلتين والخارجين علي القانون وتصدير رسالة مدمرة لهم جميعا بتمتعهم بالأمان وبإمكانية الإفلات بجرائمهم دون حساب أو عقاب.
ولمن يتشكك في هذا التحليل عليه أن يراجع شريط ذكريات الجرائم التي توالت بلا انقطاع بعد ثورة يناير ويبحث في طيات كل منها عن سيادة القانون وهيبة الدولة ويسأل نفسه عن المسئول عن وصولنا إلي حالة الفوضي والإجرام والانفلات التي أفرزت مذبحة بورسعيد…شريط الذكريات يحمل الآتي: قطع السكة الحديد في قنا عقب تعيين المحافظ,مسلسل جرائم أطفيح وإمبابة وعين شمس والماريناب وماسبيرو ضد الأقباط وكنائسهم,الاعتداء علي السفارة الإسرائيلية ومبني مديرية أمن الجيزة,مسلسل تفجيرات خطوط الغاز الطبيعي بسيناء,مسلسل قطع الطرق البرية وسرقة السيارات وخطف الأطفال, قطع الطريق الساحلي الدولي وإغلاق ميناء دمياط,مسلسل محاولات اقتحام وزارة الداخلية,محاولة اقتحام مقر رئاسة مجلس الوزراء وحرق المجمع العلمي المصري,قطع الطرق والسكك الحديدية إبان انتخابات مجلس الشعب,احتلال موقع الضبعة وتدمير منشآت ومرافق المفاعل النووي,إغلاق هويس إسنا وشل حركة الملاحة النيلية وتوجيه ضربة قاضية للسياحة,مسلسل الاعتداء علي الصحفيين الأجانب والتحرش بالصحفيات وخطف السائحين,مسلسل سرقة البنوك وسيارات نقل الأموال,هوجة سرقات المساكن واقتحام المساكن الخالية والاستيلاء عليها,هوجة البناء بدون تراخيص سواء علي الأراضي الزراعية أو في المدن,هوجة الاعتصامات غير السلمية المقرونة بتعطيل المصالح العامة والأعمال وإرباك المرور وترويع الآمنين.
كل هذه الأهوال التي عاني ويعاني منها المصريون حدثت وتستمر تحدث في ظل انهيار أمني خطير وتخاذل غريب من جانب المجلس الأعلي للقوات المسلحة عن التدخل بصرامة وقوة لإعمال القانون وفرض هيبة الدولة وردع المجرمين والمنفلتين…ثم بعد ذلك نسأل عن أسباب فاجعة بورسعيد…بالقطع هناك من العناصر التي تتآمر علي مصر وثورتها-سواء كانت عناصر داخلية أو خارجية- لكن بالقطع أيضا أن قيادة مصر جعلت منها فريسة مستباحة للشياطين وأجناد الشر…وها قد جاء وقت الحساب.