لم يكن باب إفتح قلبك بمنأي عن الأحداث الدامية التي وقعت في إمبابة والشهداء الذين راحوا ضحية الشائعات والهجوم البربري علي الكنائس دون وجه حق..والذي كان من الطبيعي أن يقابله الناس بالدفاع عن أنفسهم ..وهكذا راح ضحايا من الطرفين..راح البعض ممن هاجموا كنيسة مارمينا..وراح البعض الآخر ممن وقفوا يدافعون عن كنيستهم ومنازلهم وأموالهم ونسائهم..ليقولوا نحن لن نفرط في حق من حقوقنا ولن نستسلم بعد اليوم ففقدوا بعضا من خيرة أبنائهم..وفقد المهاجمون أيضا بعضا من خيرة أبنائهم بسبب التعصب الأعمي والانقياد وراء الشائعات المغرضة..وهكذا انتهي الفصل الأول من المسرحية الدموية والتي لم نتدخل فيها.
ليبدأ الفصل الثاني الذي كان أكثر ضراوة وشراسة لينتقل المخربون إلي كنيسة السيدة العذراء بشارع الوحدة منتقمين لفشلهم في إحراق كنيسة مارمينا أو القصاص من شعبها فيحرقون إياها بكل الجبروت والقوة..فأحيانا تقف قوة الظلم تتصدي للحق وتصده لتتسيد هي المشهد..لكن هيهات فإلهنا إله عدل إله حق..الله لا يرضي بسيادة الظلم ولو ساد إلي حين لكنه لن يسود كل حين.
هذا الفصل الثاني راح ضحيته صلاح عزيز 41 سنة الذي كان يعمل فراشا في الكنيسة حيث اقتادوه مهددين إياه..لكنه هرب منهم إلي المعمودية ليختبيء فهرعوا خلفه..ذابحين إياه بالسلاح الأبيض قبل أن يتركوه للنار تأكل جسده بعدما ضحي به فداء للكنيسة.
ذهبت منذ أيام لأحضر عزاء صلاح..دخلت إلي قاعة الكنيسة لأجد زوجته جالسة عن يمين القاعة..إنها شابة في أواخر الثلاثينيات من عمرها..تهتز بين لحظة وأخري اهتزازات خفيفة وكأنها تري شيئا أو تتذكره في خيالها ليفزعها..تمسك بكتفها تجاه قلبها وكأنها تعزي روحها..تبكي ثم تتوقف لتصافح القادمين إلي العزاء ممن لاتعرفهم..تفيق لتجد نفسها في أحضان أخت أو صديقة فترتمي باكية بلا صوت باكية في صمت..فلم أسمع صوتها حتي رحلت عن العزاء.
جلست إلي جوارها أسألها كم لديك من أطفال؟نظرت إلي فقط وسالت دموعها..ثم نكست رأسها..إندفعت صديقة بجوارنا قائلة..ثلاثة أبنتان وإبن أعمارهم خمس سنوات و13 سنة و16 سنة..لم أجد ما أرد به..هربت مني كلمات المواساة سقطت كل العبارات من فمي الواحدة تلو الأخري دون أن يخرج حرف واحد يعزي هذه المرأة في مصيبتها..عدت إلي مقعدي ولم أستطع أن أمنع نفسي طوال الوقت عن الحملقة في وجهها الباكي..فما ذنب هذه الشابة التي ترملت في شبابها؟؟..وما ذنب الأطفال الثلاثة الذين فقدوا أبا في سنواتهم الأولي في الحياة الصعبة..ومن سيرعاهم ومن أين لهم بالقوت اليومي والتعليم والعلاج والاحتياجات..من سيحمل عنهم أوجاعهم ويشاركهم آلامهم؟؟..ومن سيحمل الهم في زيجاتهم ويعول أحوالهم؟؟..ذهبت بذهني إلي بعيد..ثم عدت لأري وجهها الحزين..الذي لم أحتمل التحليق فيه أكثر من ذلك..قمت أحتضنتها في صمت ورحلت..
——-
جبل المحن
هل تتذكرون قصة جبل المحن التي نشرناها قبل أكثر من عام والتي تخص طفلا عاني من سرطان الدم وعمره ست سنوات..تطلبت حالته زرع نخاع شوكي له من أخيه,وتطلب إجراء الجراحة مائة ألف جنيه ساهم التأمين الصحي آنذاك بجزء وجمعنا للطفل جزءا..وما أن حملت المبلغ لأسلمه إلي مستشفي معهد ناصر حتي بلغني خبر الوفاة ليهز أوصالي..مات الطفل ذو الست سنوات..بعدها دخلت الأسرة دائرة اهتمامنا فالأخ الأصغر عمره ثلاث سنوات ..خفنا أن يصيبه ما أصاب أخيه..إتخذنا للأسرة مسكنا في شبرا الخيمة وقمنا برعايتها فترة حيث يعمل الأب فراشا في إحدي الكنائس..ومرت الأيام والإبن الأصغر يعيش بين أبويه بسلام لكن الأسرة فقيرة جدا وبالكاد تقضي حاجتها اليومية من المأكل والمشرب..
لسوء الحظ حل الدور علي المنطقة التي يقطنوها بشبرا الخيمة لإدخال الغاز الطبيعي إليها والأمر يتطلب 1650 جنيها وبعض أعمال السباكة التي تتطلب حوالي ألف جنيه أخري..والأسرة معدمة بلا مدخرات..لجأ إلينا الأب وقص علينا قصته..وطلب ألا نتخلي عنه بعد أن فقد إبنه في العام الماضي..ويود أن يربي إبنه الآخر دون أن يتحمل دينا أو يقترض من أي شخص..
ولعائل هذه الأسرة أقول..ربما يحرمنا الله بعضا من المميزات التي قد تبدو نعما عيون البعض لكن الحرمان منها أيضا يكون نعمة أيضا..فقدانك لولدك قبل أن تري رحلة عذاب طويلة تعجز فيها عن منع الألم من الاقتراب إليه هو نعمة يطلبها كثيرون..وربما يكون إحتياجك أيضا نعمة لأنك تجد من تلجأ إليه في حين نري كثيرون لايجدون من يلجأون إليهم أو تكون طلباتهم فوق الطاقة ..ربنا موجود ويسد حاجة كل محتاج حسب إحتياجه.