الصوم في الكنيسة الأرثوذكسية فضيلة روحية وهو ركن هام من أركان العبادة,وما من قديس سلك في طريق السماء إلا واستعان في جهاده بفضيلة الصوم.فالصوم تقليد رسولي وترتيب كنسي وضع في كنيستنا لحكمة روحية وأهداف تقوية.ونحن لا نلجأ إلي الصوم في زمن الضيق أو إبان التجربة فقط.وإنما نمارس الصوم في أوقات معينة تذهب وتجئ في كل عام,في مناسبات روحية عامة,للتعبد والرياضات الروحية..
ولسنا نريد هنا أن نناقش موضوع الصوم كأنه قضية تفتقر إلي الإثبات من الناحية الطبيعية أو من ناحية النصوص والبراهين النقلية,ولسنا نريد أن نقدم الأدلة علي خطأ الذين لا يؤمنون بالصوم أو لا يمارسونه,أو نرد علي اعتراضاتهم,لسنا نريد هنا أن نتكلم عن الصوم من الوجهة العقيدية الصرفة,فالكلام عنه من هذه الوجهة يمكن أن نفرد له بحثا خاصا أو يمكن أن يطلب في كتب أخري.وإنما مرادنا هنا أن نتأمل فقط في أثر هذه الفضيلة المقدسة في حياة المؤمن الروحية.
ولعل أول فوائد الصوم الروحية كما تعلم به الكنيسة الأرثوذكسية أي انقطاع المؤمن عن الطعام فترة من الزمن يتناول بعدها أطعمة خالية من الدسم هي:
(1) أن الصوم يخضع شوكة الجسد,ويضعف من سلطانه علي النفس وهو القمع الذي عناه الرسول بقوله أقمع جسدي واستعبده حتي بعد ما كرزت للآخرين,لا أصير أنا نفسي مرفوضا .1كورنثوس 9:27
(2) والصوم يذل كبرياء النفس,ويسحق تشامخ الروح إذ أن الانقطاع عن الطعام فترة طويلة يضعف شدة الجسد فتذل تبعا له كبرياء النفس.من بين من اكتشفوا فائدة الصوم من هذه الجهة داود الملك,ولذلك شهد قائلا أذللت بالصوم نفسي..كمن ينوح علي أمه انحنيت حزينا مز 35:14,13, كما يقول في موضع آخر أبكيت بالصوم نفسي مز 69:10
( 3) والصوم يقوي إرادة الإنسان,لأنه يقهر الجسد,يقوي سلطان النفس علي الجسد فتهاجمه وتخضعه لمشيئتها وأول ميدان يمكن للنفس فيه أن تنتصر علي الجسد هو ميدان الطعام,لأن غريزة الحياة هي أولي غرائز الإنسان وأقواها,فإذا سيطر الإنسان علي هذه الغزيزة وحكمها ووجهها وتسامي بها أمكنه وقد كسب الجولة الأولي أن ينتصر في الجولات الأخري وفي الميادين الأخري ولذلك لا ينتصر في ميدان الشهوة الجنسية من لم ينتصر أولا في ميدان شهوة الطعام,فالصوم إذن هو الذي يقوي الإرادة لأنه يكبح الرغبة ويسيطر علي الشهوة وبممارسة فعل الكبح طبقا لرغبة النفس الناطقة تقوي الإرادة,والإرادة إذا قويت أمكن أن تسيطر في كافة الميادين.ولذلك فإن جميع الفضائل تابعة لفضيلة الصوم ..لأن الصوم هو الذي يهذب الإرادة ويقويها,كفعل الألعاب الرياضية بالنسبة إلي عضلات الجسم..
والحق أن جميع أبطال الإيمان الذي صارعوا قوات الشر وقاوموا الباطل,كانوا قديسين أقوياء,عرفوا أولا أن ينتصروا علي شهواتهم ورغباتهم فقويت إرادتهم بالصوم واشتدت عزيمتهم به ,كيوحنا المعمدان وإيليا النبي وبولس الرسول,ويوحنا ذهبي الفم وأثناسيوس الرسولي وغيرهم كثيرين..
(4) والصوم يسمو بالنفس ويحقق لها الصفاء الذي ترنو إليه ,فكلما قهر الجسد بالصوم,وتخلصت النفس من سلطات الشهوات الجسدانية عليها صفت النفس وتسامت وأمكنها أن تنطلق من إسار الجسد فترتفع فوق رغابتها وشهواتها لتطلب ما يشبعها من أشواق روحية وتأملات طاهرة في مستوات عالية,وهكذا يمكنها بالصوم أن تتدرج في معارج الصفاء إلي أن تبلغ الصفاء التام الذي يحقق لها الإشراق الروحي والاستنارة الداخلية الباطنية ,فترتفع عنها حجب العالم العلوي وتبتهج بالرؤيا الطوباوية…
لذلك صام جميع القديسين الذين بلغوا إلي المقامات الروحانية العالية,هؤلاء الذين استطاعوا بالصوم أن يصلوا إلي فعل الإماتة للإحساسات الجسدية والانفعالات البشرية وأخذ يتحقق لنفوسهم الصفاء مرحلة بعد مرحلة حتي سقطت عنهم رغباتهم وشهواتهم,وأصبحت إرادة الله هي إرادتهم,وماتت حركاتهم فيهم,وأصبح المسيح وحده حيا فيهمغل 3:20.
(5) وللصوم فضائل أخري فردية واجتماعية ,ومن فضائله الروحية الفردية قهر الشياطين وطرهم عن حياة المؤمن,إلي ذلك أشار المخلص بقوله وأما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم مت 17:20,ذلك أن الشيطان يسكن الناس الذين ملكتهم شهواتهم أولا,ويهرب ممن أخضعوها وأذلوها لأنه لا يجد فيها راحة أو مقرا..
( 6) ومن فضائله الاجتماعية أنه يجعلنا نحس بآلام الفقراء,فنرثي لهم ونعطف عليهم,ونفعل البر بهم.ولايعرف آلام الجائع إلا من جاع والصوم فضيلة تلزمنا باختبار الجوع إراديا واختياريا.لذلك فأكثر أفعال الرحمة تصدر عن الذين يمارسون الصوم ويذوقون آلام الجوع,ولذلك أيضا تزداد أفعال الرحمة في أيام الصوم..ولعل من أبرز غايات الكنيسة في ترتيب أصوام عامة أن تهئ للمؤمنين فترات يتراحمون فيها بعضهم علي بعض,ولاشك أن الكنيسة بالغة إلي هذه الغايات في أيام الأصوام..
(7) وللأصوام العامة في الكنيسة الأرثوذكسية فائدة أخري روحية اجتماعية ,ذلك أنها تربط بين المؤمنين وتوحد بين جموعهم علي اختلاف بيئاتهم وجنسياتهم ولغاتهم وتباين عاداتهم البيئية والاجتماعية ,فنجدهم يصومون معا ويفطرون معا,مما ينمي وحدتهم ويقوي رابطتهم ويجعلهم متحدين معا بروح واحد ورأي واحد واهتمام واحدة .2كو 13:11, أف 4:4
لهذه الفوائد الروحية جميعا فردية واجتماعية أصبح الصوم عقيدة من عقائد ديانتنا وكنيستنا الأرثوذكسية وأصبح المؤمنون يمارسونه عبادة ورياضة راجع.1كو 7:5,.2كو6:5 قارن لو 2:37.