في الأزمات من الطبيعي أن يتردد السؤال “وماذا بعد؟”، إنه سؤال البحث عن خلاص والخروج من النفق المظلم.
وإذا أردنا أردنا الإجابة عن هذا السؤال من منظور مراقب محايد فربما نصل إلى نتيجة مباشرة، وهي أننا نعاني حالة مرضية مركبة ومعقدة، وبما أنها كذلك فإن ما نعيشه هو حالة غير مستقرة ولا يمكن لأوضاع كهذه أن تبقى على حالها، لأن المرض لا يمكن أن يكون في حالة ثبات، فإما العلاج وإما المزيد من التردي.
ومع الأسف الشديد، فإن أي عملية التشخيص قد لا تشير إلى أن ما نعانيه من أعراض مرضية هي نتاج مرض disease، ولا هي أعراض لمتلازمة Syndrome والتي تعني مجموعة من الأمراض المرضية لها مصدر واحد، يسهل على المعالج تعقبها، فالأمر بات أكثر تعقيدا.
فمما لا شك فيه أن جسد البلد يعاني مجموعة غير قليلة من الأمراض، منها ما هو حاد بالمعنى السياسي، ومنها ما هو مزمن بالمعنى المؤسسي، ومنها ما هو معدي بالمعنى الثقافي والاجتماعي.
ونظرا لصعوبة االتشخيص، فربما لا يكون في مقدور المراقب أن يجزم باتجاهات التغير والتحول إن كانت نحو الأسوأ أو نحو الأفضل. ولكن مع حالات المرض بشكل عام، فإن الاحتياطات تميل نحو ترجيح كفة الأسوأ، في حين أن الآمال تتجه نحو ترجيح كفة الأفضل.
وربما يقول المراقب، بخلاف كل الأعراض والمظاهر المرضية الحادة والمزمنة، ثمة ظاهرة خطيرة لو استمرت فإنها ترجح كفة التوقعات بالتدهور على كفة الآمال بالتحسن.
ترتبط هذه الظاهرة بتداعيات الحالة المرضية المركبة والمعقدة على جهاز المناعة المجتمعيSocietal Immune System والذي بات أكثر عرضة للإضعاف وربما التدمير، فكل ما يمكن أن نطلق عليه قدرات مجتمعية نحو الإصلاح والعقلانية في التفكير يتم تدميره بوعي وبدون وعي.
وثمة إصرار على تفريغ الجسد الاجتماعي من كل طاقة يمكن أن توقف سريان الأمراض وتوغلها.
وهذا لا ينطبق فقط على الإصلاح السياسي أو التشريعي، بل يمتد إلى كل مجالات الإصلاح حتى داخل المؤسسات الصغيرة، بل وتفاصيل الحياة اليومية.
ومع تدهور جهاز المناعة المجتمعي، وهو أمر مقصود من ناحية وذاتي التوالد من ناحية أخرى، تتسع دائرة مسببات الأمراض، ويصبح كل حدث صغر أو كبر قادر على إحداث المزيد من الأعراض المرضية، ويصبح الجسد الاجتماعي عرضة للعدوى بكل ميكروبات وصدمات الخارج الإقليمي والدولي. وكلما تدهور جهاز المناعة المجتمعى، كلما تضاءلت القدرة على التعرف الأخطاء (الأمراض) ومعالجتها، فيصبح الخلل طبيعيا ويكتسب شرعية، فلا نميز بين ما هو قانوني وما هو غير قانونى، وبين الأخلاقي واللاأخلاقي، وبين الصالح والطالح.
ويعتقد البعض أن إنهاك الجسد الاجتماعي سيجعله طيعا ومسالما، ويسعى آخرون لاستثمار المرض لأن فيه بقائهم وعيشهم السياسي والإعلامي، ولكن الحقيقة أن المرض سوف ينتشر ليدمر كل مكونات أجهزة المناعة، بما في ذلك المناعة السياسية.
وعندما نسأل المراقب، إذن فماذا بعد؟ قد تكون الإجابة هي أن المجتمع أشبه بالجسد الإنساني، عرضة للصحة والمرض، للتدهور والتعافي، للحياة وللموت.
وما يمكن قوله أن الحالة الراهنة لا يمكن لها أن تكون مستقرة ولن تستمر هكذا، لأن المرض موجود ونشط (وهذا واقع)، والعلاجات موجودة (وهذا افتراض)، والمسكنات لن تجدى (وهذا أكيد).
وفي المجتمعات التي تعانى السقم السياسي والاجتماعي تكثر الوصفات العلاجية، ويصبح المرضى أطباء والأطباء مرضى، وفي هذه المجتمعات كثيرا ما يضيق الأفق وتعلو الرهانات على المعجزات وتتعدد السبل بحثا عن خلاص، فثمة من يبحث عن ولي، وثمة من يحلم بالهجرة، وثمة من يفتح كل الأبواب، وثمة من يغلق كل باب. ولكن بداية الإجابة عن (ماذا بعد؟) هي التخلص من الأوهام سلطوية كانت أم ثورية، فالعالم يتغير وفق شروطه وليس وفق ما نتخيله