وقفت طويلا أتأمل سؤالا كثيرا ما يسأله الناس بعضهم لبعض علي سبيل السمر والتسلية, وغالبا ما يسأله الإنسان لنفسه علي سبيل البحث عما ينقصه ويرضي نفسه فيشبعها ويحقق لها السعادة والاستقرار والأمان..
ماذا تتمني؟
السؤال يبدو للوهلة الأولي سؤالا بسيطا لكنه أصعب بكثير من ظاهره.. ففي ثنايا إجابتك عنه تكمن كينونتك الحقيقية.. وفي خبايا ردك تتواري ملامح مستقبل حياتك الأرضي وامتداد حياتك في عالم الخلد بعد موتك الجسدي وانتقالك إلي أبعاد أخري جديدة..
جرب أن تطرح هذا السؤال في جلسة سمر علي أصدقائك.. ستجد إجابات متنوعة.. قد يغلف بعضها روح الدعابة والفكاهة وقد يتسم بعضها بالوقار والخشوع.
وحتما لن تخرج عن بضع كلمات كل كلمة هي عالم شاسع في مخيلة المتمني, كالصحة.. الستر.. العافية.. رضا الله.. الثراء.. النساء.. المركز المرموق.. الشهرة.. إلخ..
كلمات مقتضبة تصدر برعونة وتسرع..
ولم لا؟!! فالفضائل تبقي مجرد كلمات رنانة إلي أن تختبر..
كم من شخص تشدق بطلب الصحة والستر ورضا الله رسب في أول اختبار له علي أرض الواقع ووجد نفسه عاشقا للثراء لاهثا خلف المال بغض النظر عن مصدره بل تجده مستعدا للتضحية بقيم ووصايا إلهية كثيرة لنوال شهوة قلبه الحقيقية التي تتعارض مع أقواله المنضبطة ومظهرية مثاليته..
لذا لا تتعجب أبدا حين تقابل شخصا يشتهي الثروة حتي لو كانت صحته هي الثمن وقد حدث بالفعل في بعض المشاهير ومنهم أنور وجدي وكانت السماء مفتوحة واستجاب الله ليجد نفسه أثري الأثرياء ثم يصاب بالمرض اللعين ليعود فيطلب من الله أن يعيده فقيرا بكامل صحته وعافيته ليستلذ بطعم كسرة خبز مع بعض الطعام البسيط كما كان يفعل وهو فقير..
وهذا شخص آخر محبط فاقد الرجاء في الله ورحمته يتعجل أمانيه برعونة متجاهلا أن لكل شيء تحت ظل السماء ميعادا وأن الله يأتي بالمطر المبكر والمطر المتأخر (من وجهة نظر الإنسان) في موعد دقيق تجده لا مانع لديه من أن يبيع نفسه للشيطان في سبيل الشهرة والمال وهو يدرك جيدا في قرارة نفسه المصير المظلم لكل من باع نفسه للشيطان فحتما يموت أبشع ميتة بعد أن يتجرع تجارب لا يقوي بشر علي قسوة مرارتها في أعز ما لديه ثم يورث اللعنات لنسله البائس من بعده..
يعلم كل ذلك وأكثر بالسليقة لكنه يصاب بعمي البصر والبصيرة وقت الاختبار والاختيار ويساق كالماعز الأليف إلي هلاك محتوم..
من هنا جاءت أهمية البحث الدقيق عن الإجابة المنجية لهذا السؤال المصيري (ماذا تتمني؟) والتي يكتب بها الإنسان بنفسه لنفسه عن نفسه ماضيه وحاضره ومستقبله في الحياة الدنيا والآخرة النجاة والفوز العظيم..
نجد تلك الإجابة في تفاصيل قصة الملك سليمان العظيم والذي بالفعل سئل هذا السؤال من قبل الله فكانت إجابته صادمة للعقل البشري المحدود!!
اختار سليمان الحكمة.. والحكمة فقط.. لم يطلب من الله سواها!!
طلبها من عند الله ليستلمها منه له المجد والإكرام والعز والجلال.. حكمة علوية فوقانية لا تنخدع بمعسول الكلم ولا بريق زائف.
حكمة تخترق الظاهر ولا تنخدع بالمظاهر مما يبدو للعين البشرية وتغوص في أغوار الأمور بسلاسة وهدوء فتصيب الرؤية والفهم والحكم وتجيد التعامل والتصرف..
اختار سليمان العظيم الحكمة فصار سليمان الحكيم وجلبت له تلك الحكمة الممنوحة له من الله كل شيء.. بمعني كل شيء.
جلبت له الثراء والملك والزوجات والنسل والمكانة والرفعة والسلطان وكل متطلبات الإنسان الجسدية والنفسية والروحية بالطريقة السليمة لأن معايير اختيار تلك الأمور المادية كان روحيا.. كان الله..
كثيرا ما يتوهم الإنسان أنه حكيم ولكن للأسف هو فقط حكيم في عين نفسه حكيم بمقاييس العالم وحكمة هذا العالم دائما تكون جهالة..
حاول أن تحصر عدد خسائرك وإخفاقاتك التي عانيت منها وعرقلت مسيرة حياتك بسبب ما توهمته أنه الصح من وجهة نظرك المثقلة بمعرفة وحكمة زائفة جعلتك يوما ما تحارب من أجل أمر أو شخص صار بعد ذلك السبب الأساسي في ألمك وخسائرك وربما تدميرك..
ليس كل ما يلمع ذهبا فكل المصائد حتما مبهرة جاذبة مغرية للعين ولكن داخلها موت وهلاك..
إذا فالحكمة العلوية والبصيرة النورانية ستختصر عليك مشقة وعورة طرق تبدو لك في مستهلها نعيما وسعادة وما أن تطأ بقدميك فيها تغوص في أوحالها وتغرس في رمالها المتحركة فتبتلعك كالوحش الكاسر الجائع بلا شفقة..
الحكمة العلوية سترشدك إلي سبل التكسب التي يرضي عنها الله فتجد كل ما تكسب إنما هو مبارك تنفقه في الخير والسعادة يكفي ويزيد بسبب رضا الله..
الحكمة العلوية سترشدك لشريك حياة صالح بمقاييس الله الضامنة لرحلة حياة آمنة هادئة ونسل مبارك صالح لا يخزيك دنيا ولا آخرة..
سلسال مترابط بإحكام وتطابق شبه كامل فقط عليك تشكيل الحلقة الأولي ببراعة لتسير بعدها الأمور من تلقاء نفسها بهدوء وسلاسة.. ولم لا فالبناؤون المحترفون يضعون جم جهودهم وكلفتهم في الأساس لضمان عمقه وقوته وصلابته وبعد ذلك يعلو البناء بلا أي خوف وبأقل تعب..
الطبيعة.. الحيوان.. وحتي الجماد ينطق بثوابت عميقة كل بلغته علينا فقط التأمل والتفكر والتفهم ثم التطبيق.
لذا تمهل قليلا وربما كثيرا قبل أن تقدم علي إجابة ذلك السؤال الخطير (ماذا تتمني؟).