يبدأ المشهد برجلين قاما بسرقة إحدي الفيلات الفخمة وهربا سويا علي دراجتهما النارية. وفيما هما يسابقان الريح إذ بلجنة مرور تلوح في الأفق القريب وتنذر بحتمية إلقاء القبض عليهما إذا اكتشفوا ما يحملون من مطواة ورزمة كبيرة من العملة الصعبة تساوي ثروة وبالتأكيد لا يمكن أن تكون ملكهما.
وبلا لحظة تردد قام أحد اللصين بإلقاء رزمة المال بعيدا واستبقي المطواة معه قناعة منه أن المال مسروق أما المطواة فهي ملكه ودخل آمنا مطمئنا تجاه اللجنة معتقدا أنه قد فعل الصواب بسبب نطاق إدراكه الغبي.
وفي نفس اللحظة تصادف وجود رجل متشرد يفترش الرصيف وينام عليه وللصدفة البحتة سقطت رزمة المال فوق رأسه فأيقظته من عمق نومه فقام متأففا وقد اعتلت علامات الغضب والضيق أسارير وجهه المتسخ.
أمسك الرجل تلك الرزمة الغريبة الملامح لعملة لم يعهدها من قبل طيلة حياته وقلب فيها بعين فاحصة جاهلة حتي قرر أنها أوراق لا معني لها ولا قيمة, فألقاها بكل قوة بعيدا وعاد يستأنف نومه الهانئ ظنا منه أنه فعل الصواب أيضا بسبب نطاق إدراكه الغبي.
هذا المشهد العبقري في أحد الأفلام المصرية ربما يمر مرور الكرام علي الغالبية الساحقة من البشر وأقصي ما يمكنه فعله هو رسم بسمة علي الوجوه ربما تشتد حدتها لتصدر صوتا بضحكات وقهقهات سطحية ساذجة لا تستغرق سوي ثوان معدودة.
أما القلة القليلة والتي أدمنت الغوص في أغوار سلوكيات البشر لبلوغ ذروة التأمل ونشوة الفهم ولذة تصنيف خلق الله -لا للإدانة بل لاستخلاص الحكمة والموعظة- سيدركون جيدا أن ذلك المشهد هو مدرسة كاملة موجودة في كل مكان وكل زمان حولنا.. مدرسة لها تلاميذ وأساتذة ومناهج وأيديولوجية مثيرة.. لكنها مثيرة للشفقة.
دعني أستفيض قليلا في تفسير ما أقول بقصة واقعية حدثت معي..
في إحدي المناسبات التي اعتدت فيها إسعاد من حولي من أصدقاء أردت أن أتعلم درسا عمليا من واقع الحياة فقررت إخفاء الهدايا داخل أكياس متشابهة ووضعت رقما فوق كل جائزة وتركت الجوائز كلها أمام نظر الجميع يتفحصون فيها كيفما شاءوا بعيونهم بدون لمس وتركت كل متسابق يختار الرقم الذي يريده.
وكما توقعت بدأ المتسابقون حسب أولوية الحضور باختيار الرقم اعتمادا علي المظهر الخارجي للكيس.
وكما توقعت أيضا بدأ الاختيار ينهال علي تلك الأكياس الضخمة الطويلة العريضة المنتفخة و ما أن حجزت تلك الأرقام صاحبة الحظ الأوفر في الحجم اضطر باقي الفائزين إلي النزول بسقف طموحاتهم (البصرية) إلي الأقل حجما وانتفاخا.. إلي تلك الأكياس الصغيرة الضئيلة النحيلة المنبوذة من البداية ليجد المتبقون أنه لا خيار أمامهم سواها فاضطروا مرغمين الاختيار منهم.
وكان الدرس بعد فتح الأكياس..
فوجئ كل من اختار اعتمادا علي الظاهر كالحجم والشكل أن جوائزهم جميلة وقيمة ولكن هيهات بين قيمتها وقيمة تلك الأكياس النحيلة والتي كانت تحوي هدايا من الذهب أو مبالغ نقدية عالية!!
وتأكدت من ظنوني وصار يقينا لدي..
إن الغالبية العظمي من البشر تعتمد في اختياراتها علي المظهر الخارجي والذي غالبا ما يكون خادعا كاذبا ويغفل أولئك الغافلون الجاهلون كنوزا قد تبدو للوهلة الأولي بسيطة متواضعة متاحة بوداعة وبساطة وكل هذا أيضا بسبب نطاق الإدراك الغبي.
قصة أخري تؤكد اليقين التام بتلك العلة المهلكة لأصحابها سأسردها لكم وهي الأروع وقد حدثت معي أيضا..
في يوم من الأيام تواصلت معي إحدي سيدات الطبقة الراقية جدا في المجتمع علما وأدبا وثراء لتشكرني وتشيد بما حققته تركيبتي الصيدلانية من شفاء لحالة جلدية مستعصية كانت تعاني منها لسنين كثيرة ذاقت فيها كل صنوف المعاناة النفسية والجسدية قبل المادية.
وقالت فيما معناه:
لهثت خلف كل شيء براق مذهل يجيد أصحابه خلق دعاية أسطورية حوله ولم ألتفت إلي تركيبات صيدلانية في عبوات بسيطة مقارنة بما كانت عيناي تبحث عنه من إبهار ظاهري.
إلي أن فقدت الأمل تماما بعدما جربت كل مبهر وبالصدفة سمعت عنك بهدوء وبلا صخب وقررت أن أجرب فلن أخسر أكثر مما خسرت.
وكانت الصدمة المفرحة..
تلك العلبة البسيطة بتلك التكلفة البسيطة فعلت ما لم تفعله تلك العلب المبهرة الجمال الباهظة التكلفة والتي في النهاية كان مستقرها صفيحة القمامة بعد أن فرغت دون أن تحقق الهدف المنشود.
قالت لي كلاما وكانها تقرأ عقلي ومنهجي في عملي وعلمي بصوت عال.. هي تكلفة محددة معينة.. أنت بكل أمانة تضعينها في الداخل في علاج المتألم, فتأتي بأكبر النتائج.
أما الآخر فيستهلك أغلب تلك التكلفة في المظهر المبالغ فيه والدعايا الممولة ببذخ علي حساب قيمة وفاعلية ما في الداخل هو وضع المال الأكبر في المظهر لذا ما في الداخل كلفته ضئيلة ونتيجته أيضا ضئيلة.
شكرتها من قلبي وأبديت إعجابي بذكائها ونطاق إدراكها الجديد الذي كان السبب الأساسي لوصولها إلي حل لمشكلتها.
ومضيت لحال سبيلي وأنا أبتسم..
كم من شاب خدع في فتاة بسبب المظهر الخارجي البعيد تماما عن جوهرها الحقيقي.
فهذا شاب متدين خدع في فتاة تدعي التدين والأخلاق والأدب ومظهرية التقوي وكانت هذه المصيدة الظاهرية هي سبب دمار حياته وسمعته كلها سواء اكتملت تلك العلاقة بزواج أو لم تكتمل.. فعند أول اختلاف بينهما سقط القناع وظهر الجوهر البشع.
كم من فتاة خدعت في شاب أبهرها بوعود ظنت بها أن الله قد عوض سنين تعبها بالخير وبمجرد حصوله علي غرضه بصورة أو بأخري يسقط عنه قناع الكرم والرقي والحب المصطنع وينجلي القبح الحقيقي والقذارة المستشرية في أوصاله المعطوبة وجذوره النجسة.
وفي الحالتين قد يترك نفس الشاب أو الفتاة فرصة هي الأفضل بكل المعايير, كنز يأتي مرة واحدة في العمر ولا يتكرر.. يزهده ولا يلتفت إليه لا لشيء إلا لأنه بسيط خفيف لين متواضع صادق وغير مرهق.. فيرحل دون عودة, حتي يكتشف الكارثة بعد ضياع مستقبله بسبب اختياره الغبي وضياع فرصته مع هذا الكنز الذي لن تجود به الحياة مرة أخري لغبي مثله أو مثلها وهذا أيضا بسبب نطاق الإدراك الغبي.
إنه الغباء يا أحبائي عمي البصيرة ومرض اعتياد التفكير بالعين والأذن لا بالممارسة والتعامل والعشرة ثم الاستنتاج والقرار الحكيم.
وبعدما يشير المستشارون عليك بما يريدونه ويتفق مع ميولهم وهواهم وتتجرع أنت كأس الفشل ويستقر الألم في قلبك وحدك, لن تجد أحدا من الذين تسببوا في غرقك بجانبك لينقذك مما أغرقوك فيه.
وهذا أقل عقاب لك حين جعلت غيرك يفكر نيابة عنك بنقل ميوله ومعتقداته الشخصية إليك حتي دمرك وتركك تصارع طواحين الهواء أيضا بسبب نطاق إدراكك الغبي.
انتبه يا صديقي فأنت وبكل تفاصيل حياتك الاختيارية الحرة نتاج لتلك البيانات والمدخلات التي تتبناها لتصير قوانينك وإرشاداتك ودستورك في كل خطواتك.
انتبه جيدا وأنت تشكل تلك الثروة الخفية داخل وعيك وهي (نطاق الإدراك).