بلغت الثامة والعشرين من عمري قبل أن أستطيع أن أتحقق من أنه من المستحيل أن أكون أي إنسان آخر إلا نفسي. كانت قد مرت علي سنوات طويلة وأنا أحاول أن أشكل شخصيتي بالطريقة التي ترضي الآخرين. والتي يرون أنها أنسب الطرق. وفي ذلك اليوم منذ عام بأكمله توقفت محاولاتي الفاشلة المستمرة لأكون إنسانا غير حقيقي. منذ ذلك اليوم ضربت عرض الحائط بكل التقاليد والمثل والقيم والتعليمات التي أملأ بها عقلي وفرضها علي أهلي سنوات طويلة.
قبل بداية ذلك العام كنت أسوق نفسي في بؤس وأسي وتعاسة لأكون الإنسانة التي أخبرني أهلي وأصدقائي ومعارفي أنه يجب أن أكونها, كنت أرتدي الثياب التي يرون أنها تناسبني, واتحدث حينما يكون الحديث لائقا من وجهة نظرهم حتي لو كنت في تلك اللحظات لا أملك مايمكن أن يقال. أن ألتصق بأناس لا أحبهم ولا أجد راحة أو سعادة في معاشرتهم وأشعر أيضا أنهم لا يحبونني وأنني أفرض نفسي فرضا عليهم. أذهب إلي النادي والسينما وبعض الأماكن التي لا أرغب في الذهاب إليها, ولا أحس براحة وأنا موجودة بها.. أجبر نفسي علي الضحك علي أحاديث وملاحظات لا تستوجب الضحك ولا تجلبه, لأن الذوق والإتيكيت يستوجبان أن أجامل وأضحك وأمثل, أشعر أنني غبية, لأنني اضحك أحيانا علي أشياء سخيفة أو منفرة أو تدعو إلي التقزز. ارتبط بأصدقاء تري أسرتي أنهم أنسب الناس للمصادقة, حتي لو كنت أشعر أنني لا أستريح معهم أو أستطيع أن أفتح لهم قلبي وأصارحهم بمتاعبي. أغلق علي نفسي بابا ضخما أخفي وراءه حقيقة نفسي.. حقيقة مشاعري.. حقيقة ميولي رغباتي.. حقيقة نفسي وأبدو أمام الجميع بصورة تناقض تماما حقيقتي.
وقد أجمع أفراد أسرتي أن مواهبي في الجمال والقدرات المختلفة متواضعة لا تستوجب أن يكون لدي طموح كبير يدفعني لمحاولة الوصول لأهدافي. ولذلك بعد أن تخرجت من الجامعة التحقت بأول عمل صادفني.. كان العمل لا يتناسب مع رغباتي وميولي أو طموحي, لكن الجميع قالوا إنه أفضل عمل يناسبني.
وبقيت في ذلك العمل خمس سنوات كاملة لا أجد فيه شيئا يدعو إلي فخري به أو دفعني إلي مجرد التمسك به أو الاستمرار فيه. كنت كالآلة التي تدور وتدور لتؤدي نفس العمل في ظل روتين قاتل ليس فيه ابتكار أو تجديد أو ؟؟
إن كان هناك فرد امتلأ بالأسي منذ طفولته, فإن هذا الفرد هو أنا وحدي. وكم سبب لي هذا الشعور من المهانة والهوان والألم والاستحياء. ولكن رغم ذلك لست أدري كيف قررت أن أكون أنا.. كما أحب أنا.. كما أريد أنا.. كما أشعر أنا.. كما أتطلع وأطمع أنا.. لا كما يريدني الآخرون.
وتركت عملي وسط ثورة الأقارب والأصدقاء والزملاء والزميلات.. الجميع ساخطون علي, خائفون علي مستقبلي وعلي تهوري, يتوقعون لي الفشل في الحياة الجديدة التي نويت أن أعيشها.
والتحقت بعمل آخر أحبه وأريده منذ صغري فيه ابتكار وتجديد وخلق, شعرت أنني أستطيع من خلاله أن أحقق ذاتي.. كانت العيون ترصدني.. ولا أنكر أنني كنت أخشي الفشل.. أخشي أن أجعل من نفسي أضحوكة وسط الجميع, ولكنني كنت أشعر في قرارة نفسي أنني إنسانة فريدة, في شخصيتي المختلفة, وأني يجب أن أكون كما أريد.
وكان سني في ذلك الوقت يسمح لي بأن أسترد بعض ثقتي بنفسي. لم أعد صغيرة أو مراهقة أو خائفة. قررت أن أفعل ما أريد, وأن أعبر عن رأيي ومشاعري كما أحس, فإن لم يرض عني الآخرون فتلك مشكلتهم وليست مشكلتي. بدأت أذهب إلي المكان الذي أريده أنا وأمتنع عن الذهاب إلي الأماكن التي لا أجد لدي رغبة في الذهاب إليها. وأضحك علي الأشياء والكلمات التي تستحق الضحك فعلا, لا لأن ضحكي أو ابتسامتي يجب أن ترسم أو تتم وقت ما يريد الآخرون.
لم أعد أخشي أن أتحدث, علملا بحكم الصمت الذي ألزمني به كل من حولي, بدأت أعرب عن رأيي وأقول ما أراه أو أعتقد أنه صواب ولم ينفر مني الآخرون ولم يقابلوا كلامي بدهشة واستغراب أو استنكار.. بل لقد استطعت أن أنشئ صداقات عزيزة علي تحترمني وتحبني واحترمها وأحبها.
وبعد عام طويل استطعت أن أكون أنا الحقيقة.. نجحت في عملي. وارتبطت بخطيب يفهمني ويقدرني ويحبني أيضا, وامتلأت مفكرتي بالأصدقاء, وانتعشت حياتي الاجتماعية وأهم شيء قضيت علي الشعور بالنقص الذي طالما آلمني. ولدت من جديد, وأصبحت إنسانة أخري تماما وبالاختصار إنها تجربة جميلة تستحق أن يكافح الإنسان من أجلها وأن يعمل علي تحقيقها. وعند ذلك فقط يحترم نفسه ويحترمه الآخرون.