أتذكر اليوم الذي قمت فيه بعمل تحقيق صحفي مع أشهر العزاب في مصر الذن اضربوا عن الزواج وفضلوا حياة الحرية علي الإرتباط بالأسرة والأطفال. يومها التقيت بأكثر من عشرة من المشاهير من الأدباء والفنانين وكان من بينهم العقاد وكامل الشناوي. وكان سؤالي يدور عن الأسباب التي دفعتهم إلي رفض الزواج, ورغم تعدد الأسباب وتعدد الإجابات فقد كان العامل المشترك بين كل الردود رنة الندم الظاهرة أحيانا والمختفية أحيانا أخري.
تذكرت هذا الموضوع عندما احتدمت أمامي مناقشة بين مجموعة من الزملاء والزميلات حول عدة موضوعات تدور كلها حول الزواج المبكر والمتأخر والإضراب نهائيا عن الزواج! والزواج بشريك أو شريكة لا تناسبه من ناحية السن.. كان سبب المناقشة وفاة صديق تجاوز الستين مكان في مركز مرموق, ومكانة مشرقة, وكان يتمتع بقدر كبير من الغني والحياة الرغدة, ومع كل ذلك لم يتزوج, عاش حياته بالطول والعرض كما يقولون, يتمتع بحريته كاملة.. حقيقة كانت تنتابه مشاعر الوحدة أحيانا, وعندما يسزله زملاؤه أو أصدقاؤه كان يخفي هذه المشاعر بسرعة ويرسم علي وجهه ملامح السعادة والرضا. وكان النهاية أليمة فعلا, فقد مات في شقته وحيدا بلا أنيس أو رفيق, وظل جثمانه أكثر منأربعة أيام كاملة دون أن يكتشف أحد وفاته, إلي أن تنبه الجيران فاكتشفوا الوفاة.. وهكذا ذهب وحيدا دون أن يشعر به أحد, هكذا أراد, لم يجبره أحد علي هذه الوحدة.
كان رأي البعض أن هذا السلوك ينم عن أنانية كبيرة من جانب صاحبه, فهو لم يرد أن يكبل أحد حريته, ولم يقبل أحد أن يتحمل مسئولية بيت وأسرة ورعاية أطفال.. أراد أن يعيش حياته لنفسه فقط وهذه قمة الأنانية.. وكان رأي آخرين أن الزواج في هذه الظروف الصعبة أصبح مغامرة غير مأمولة الجوانب, بل زصبح في حكم المستحيل بالنسبة لشاب محدود الدخل ليس له إلا مرتبه مهما كان كبيرا, فكيف يتمكن من أن يجد شقة, وكيف يمكن أن يوفر المال اللازم ل؟؟؟ أو التمليك وشراء الأثاث والمعدات الحديثة مثل الثلاجة والغسالة والسخان والتليفزيون, وكيف يوفر حياة كريمة لشريكة حياته, وحياة لائقة لأطفال يتحمل مسئولية تربيتهم ورعايتهم داخل مدارس وجامعات.
وعلي ذلك يكون الإضراب عن الزواج ليس أنانية أو حب ذات, وإنما هو اضطرار أمام تلك الظروف الصعبة.. بل إننا يمكن أن نقول أن الشباب يريدون ولا يقدرون علي تكاليف فهم محرومون من تحقيق رغبتهم.
وربما كان هذا السبب هو الذي يضطر الشباب إلي الانتظار عدة سنوات طويلة حتي يتمكنوا من تكوين أنفسهم ويتمكنوا من الزواج. والزواج في سن متأخرة له عيوبه أيضا, فالأولاد يكونون صغارا بينما الأب أصبح في سن الشيخوخة وقد لا يمهله العمر حتي يؤدي رسالته نحوهم كاملة. وأحيانا أخري يلجأ الشباب إلي الوسيلة الأسهل وهي الزواج من فتاة تكبره بسنوات عديدة ولكن لديها من الإمكانيات المادية ما يوفر الشقة والزثاث والحياة الرغدة, ولا تهم المشكلات الاجتماعية والنفسية التي تنشأ عن مثل هذا الزواج الذي يفعقد التكافؤ.
وتعددت المناقشات وتفرعت إلي كل جانب, ولكن الاجماع أكد أن الحياة الزوجية هي الحياة الطبيعية التي ارتضاها المجتمع, وهي التي توفر الدفء والتوازن العاطفي والحياة الاجتماعية السلطمة, وأن الإنسان خلق ليعطي, وبقدر ما يعطي يأخذ, فالحياة لا يمكن أن تعطي الإنسان الأناني أو الشخص الذي يتقوقع داخل نفسه فقط. وبقدر ما تكون تضحية الفرد وبذله بقدر ما يون نصيبه من الحياة. حقيقة أن الزواج مسئولية وجهد وبذل وعطاء مستمر, ولكنه يعطي في مقابل كل ذلك الحياة الأسرية ويوفر الراحة النفسية والإحساس بالرضي كلما أحاط الأولاد بالأب والأم, ويقضي علي الشعور بالوحدة, وكل جهد يبذله الأب في شبابه يرده له أولاده في شيخوخته.