يعلمنا السيد المسيح قائلا:كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم.لاتدينوا فلا تدانوا(لو6:36) يحكي عن راهب كان يتحلي بالتواضع والبساطة والرحمة ومحبة الناس, كما كان لا يظن السوء أبدا في أي شخص مهما صدر عنه من تصرفات إيجابية أو سلبية, فعندما كان يدخل غرفة أحد الإخوة ويجدها نظيفة وأنيقة ومنظمة, يردد قائلا:هذه الحجرة النظيفة مرآة تعكس ما بداخل صاحبها وتعبر عن شخصيته الجميلة, وعندما كان يدخل أخري ويجدها مهملة وغير نظيفة وغير مرتبة, يعترف قائلا:انظروا كم من الأشياء الكثيرة التي تعلمتها من هذا الأخر, لأنه يكرس كل وقته لله فقط, حتي أنه لا يجد ساعة واحدة لترتيب حجرته. أمام هذا الموقف النبيل يستطيع كل واحد منا أن يسأل ذاته:هل أتمتع بهذه الروح المضيئة والصافية التي تنظر إلي تصرفات الآخرين بعين طاهرة ونقية؟ وهل أمتلك النظرة الإيجابية التي تري كل ما هو جميل يفعله الآخر, وألتمس العذر له فيما هو خلاف ذلك؟ من ذا الذي ينظر إلي أعمال وأفعال الغير بروح حليمة ورحيمة؟. مما لا شك فيه أن هناك خطا فاصلا يظهر لنا هذا الهدف ألا وهو رؤية العين. لأن العين البسيطة النقية تبحث عن كل ما هو جميل وخفي عن العين الشريرة التي لا تري إلا السلبيات والأخطاء التي تصدر عن الناس. فالمحبة الحقيقية تذهب إلي أبعد مما يراه العقل الذي يحكم علي التصرفات الخارجية الصادرة عن الأشخاص الذين نتقابل معهم كل يوم, وعندما تختفي المحبة, نكون علي أتم الاستعداد لاكتشاف أتفه العيوب في الآخرين, وحينما نجعل من أنفسنا ديانين فقط, سنصبح جاهزين ومتربصين لمراقبة الناس وتصرفاتهم دون رحمة ولا شفقة وسيكون من السهل علينا أن نصير أشخاصا هدفهم الأول والوحيد هو وضع لائحة مكتوب عليها عيوب ونقائص الآخرين. للأسف نجد الكثير منا يمتلكون آلاف من العيون للحكم علي الغير بينما يحملون عينا واحدة للنظر إلي أنفسهم, وليتجنبوا ملاحظة أي شيء سلبي يصدر عنهم. لكن المحبة الصادقة تلهمنا الرؤية البناءة ونكتشف ما بداخل الغير من جمال وطيبة وفضيلة والإنسان الناضج والحكيم يستطيع أن يواجه ذاته ويري حقيقتها ليصلحها ويعالجها, لكن الإنسان السيء قلما ينظر للغير نظرته لذاته لأنه يظن نفسه بلا عيب ومنزها عن الخطأ لذلك من الأفضل أن نحتمل بعضنا البعض, ونتعاون معا لإصلاح أنفسنا قبل الغير. فكما أن حرارة الشمس تبدد الضباب عن وجه الأرض. لتدب الحيوية في الطبيعة وتنتعش الخليقة كذلك الرحمة مع النفوس تزيل عنها الخمول وتعيد إليها النشاط وحب الخير, وتبعدها عن طريق الشر والفساد. ما أجمل أن نتعامل مع الناس بحنان ورحمة , وخاصة الضعفاء والمحرومين والمهمشين في المجتمع, لأن هذا التصرف الراقي يمس أعماقهم ويملأ حياتهم بالسعادة والأمل لأن عدم الرحمة والرأفة نحو الآخرين لا تثمر إلا البغض والحقد,لأنها تهدم ولا تبني, تباعد بين القلوب حتي لا تقترب بعضها من بعض. بينما اللطف والرحمة واللين والحنان تجتذب القلوب وتطفئ الأحقاد وتنشر المحبة والود والفرح والوئام بين الجميع. إن الرحمة كانت وستظل دائما أبدا أعظم وسيلة لقمع الشر وتفجير طاقات الخير في النفوس, وهي علي النقيض من القسوة والجفاء, التي تدفع إلي الإجرام والتصرفات العدوانية. كم كانت الرحمة سببا رئيسيا لعودة نفوس ضالة إلي الصواب, وجعل العنف يتبدل إلي وداعة! من منا بدون عيوب أو نقائص؟ إن الذي يدعي هذا يعميه الكبرياء حتي أنه يظن نفسه أكثر الناس كمالا واستقامة وتكون النتيجة الحتمية أنه يهمل النقائص الموجودة فيه, حتي أنها تشوه معالم شخصيته. لذلك يجب علي كل واحد منا أن يصغي لكلمات السيد المسيح عندما يقول لنا:لماذا تنظر إلي القذي في عين أخيك؟ والخشبة التي في عينيك فلا تفطن لها؟ بل كيف تقول لأخيك دعني أخرج القذي من عينك؟ فها هي ذي الخشبة في عينك أيها المرائي أخرج الخشبة من عينك أولا, وعندئذ تبصر فتخرج القذي من عين أخيك (متي7:2-5) إذا لا يوجد إنسان علي وجه الأرض خال من النقائص والعيوب, إلا من أعماه الكبرياء لأن يتصور ذاته أفضل من جميع الناس ثم يبدأ في فضح عيوب الآخرين ويروج الأكاذيب عنهم. ونختم بكلمات الجاحظ:إذا كان الحب يعمي عن المساوئ فالبغض يعمي عن الحقائق والمحاسن.