التواضع هو سمة الأشخاص المؤثرين والمُلهمين والذين يجذبون الناس إليهم كالمغناطيس بدون أن يبذلوا جهد في ذلك، أو أن يسعوا إلى جذب الانتباه إليهم. هناك عشرات القصص الواقعية من عالم الإنسان التي تؤكد أن التواضع يمكنه أن يتجسّد في حياة ملموسة حقيقية صادقة، إلا أنني توقفت كثيرًا أمام حياة هذه المرأة التي تركت كل مظاهر الغنى والرفاهية والراحة لكي تذهب إلى حي الفقراء حيث يعيش الناس في بؤس وفقر وحرمان بين حشرات الطبيعة، كانت تعلّم أطفال الفقراء العديمي الشأن، وكانت تساعد أي شخص – بغض النظر عن دينه أو جنسه أو عرقه – يحتاج إلى مساعدة.
لم يكن هناك إضاءة مُسلّطة على أعمالها، ولم توجد إعلانات على مواقع السوشيال ميديا لإظهار إنجازاتها، بل لسنوات عديدة خيّم الصمت على كل تحركاتها النابعة من قلب متواضع، ليأتي اليوم الذي يتحدث العالم كله عما فعلته هذه المرأة العظيمة، بدون أن تتحدث هي، وأن يفتخر العالم ويُلهم من صدق أفعالها، فتتعلم أجيال منها ويستمر العمل في اتساع وانتشار ليشمل بقاع كثيرة حول العالم ليحارب الفقر والجوع والمرض.
ففي عام 1948 وتحديدًا 17 أغسطس دخلت الأم تريزا عالم الفقراء، تخدم المرضى المتألمين، وتُضمد جروح الأطفال، وتُطعم المشردين، واستمر هذا النموذج الحي خمسون عامًا نموذجًا بسيطًا متواضعًا. لم تسعى لشهرة أو تسليط الضوء أو لقاءات صحفية أو مقابلات تليفزيونية. عندما سُئلت عن سبب انتقالها لتعيش في الأحياء الفقيرة وسط المرضى والمشردين، أجابت قائلة: “كيف أخدم الفقراء بحق إذا لم أفهم ما يختبرونه كل يوم؟!”.
أسست الأم تريزا سبع منظمات خيرية ترعى الرجال والسيدات والأطفال، وقد فازت بجائزة نوبل عام 1979م. وتم استضافتها للتحدث في حفل تخرج في جامعة هارفارد، قابلت عشرات من الرؤساء والسياسيين والبرلمانيين لدعم إرساليتها ورؤيتها في خدمة الإنسان، واُنتخبت لمدة سبع سنوات كأفضل امرأة مؤثرة في العالم. إنها قصة مذهلة بحق، والسر يكمن في حياة الأم تريزا أنها عاشت “التناقض الظاهري”، فحقيقة كونها متواضعة ولا ترغب في جذب الانتباه إليها، كان هو المغناطيس الذي جذب الناس إليها. لم تسعى للشهرة وهذا ما جعلها مشهورة، لم تهتم بالمناصب والمراكز، وهذا ما جعل مكانها ثابتًا لا يمكن الاستغناء عنها كقائدة مُلهمة ومؤثرة.
كان شعارها: “أنا مجرد قلم صغير في يد الله به يكتب ويرسل رسالة محبة إلى العالم”. رسالة مقروءة بحروف من نور تعكس واقع حقيقي صادق بعيدًا عن الخطابات الفارغة والوعود الواهية والشعارات الكاذبة. حتى وإن صمتت الأم تريزا لتحكي عن إنجازاتها أو أعمالها، فالمحيطون كثيرون ينطقون بشهادة صادقة أمينة ليتحدثوا عن مدى عظمة هذه القائدة المتواضعة، فالناس تميل إلى التحدث عن الإنسان الذي لم يتحدث عن نفسه. فصمتها هو صوت عظيم يرن في كل أرجاء المسكونة.
يقول الحكيم سليمان في كتاب الأمثال: “لِيَمْدَحْكَ الْغَرِيبُ لاَ فَمُكَ، الأَجْنَبِيُّ لاَ شَفَتَاكَ.”. إذا كنا نفتخر بمؤهلاتنا ونسعى للحصول على إشادة الناس، فإننا سنفتح أبواب الانتقاد والسخرية منا. لذا، يجب أن نعمل بجد وتفانٍ لتحقيق أهدافنا وندع أعمالنا تتحدث عنا بدلًا من أفواهنا. إذا كان هدفنا هو مجد الله في أعمالنا، فإن الثناء سيأتي من الله نفسه وحتى من الآخرين. يجب علينا ألا نتكلم عن نجاحنا وتفوقنا باستمرار، بل نركز على اكتشاف أنفسنا وتمييز مواهبنا وإمكانياتنا التي وهبها الله لنا، ونسعى لتطوير وتحسين هذه القدرات، ونعمل بجد وأمانة لإرضاء الله وحده وتحقيق هدف وجودنا في هذه الحياة. يجب أن نلاحظ جيدًا أن إشادتنا لأنفسنا تثير غيرة الناس. ولكن إذا كان الله هو الذي يحرك قلوبهم ليمدحوننا – كما حدث مع الأم تريزا وغيرها – فسيكون ذلك بمحبة وليس بغيرة أو استهزاء. لذا، دعونا نترك ذلك لله ولا نسعى للثناء على أنفسنا.
إذا اعتاد الإنسان على تلقي المديح، فإنه سيفقد روح التواضع وسيفقد نعمة الله. قد يكون الذين يمدحونك صادقين في إشادتهم، ولكنهم لا يعرفون حقيقة أعمالك وأفكارك إلا إذا تمكنوا من قراءة أفكارك ومشاعرك. إن الإنسان يعرف حقيقة ضعفاته وأخطائه وانحرافاته، واختباره القلبي بحب الله وقبوله وغفرانه، يقوده أن يكون متواضعًا ويرفض إشادة الناس في داخله، أو على الأقل لا يسعى إليها أو يطلبها.
تذكر هذه الحقيقة: “كثيرون يمدحوننا اليوم ويذموننا غدًا، فمن يُسر بمديح الناس اليوم، يفقد سلامه في الغد”. بالفعل هناك العديد من الأشخاص الذين يمدحونا اليوم وفي الغد يتحدثون عنا بأبشع الكلمات. إذا كنت تستمتع بإشادة الناس اليوم، فقد تفقد سلامك واستقرارك غدًا. لذا، يجب أن نتوقف عن التعلق بإشادة الناس ونترك الأمر لله بدون أن نطلب إشادة أنفسنا.
التواضع لا يعني الضعف. فالأشخاص مثل الأم تريزا وغاندي ونيلسون مانديلا ومجدي يعقوب وغيرهم دائمًا يظهرون قوة وثبات، وهم على يقين بقيمتهم الحقيقية ولا يقلقون بشأن صورتهم. إنهم يدركون أن قيمتهم ليست فيهم فقط، بل في شيء أكبر منهم. إنهم يتمتعون بتواضع حقيقي لينظروا خلفهم بثقة وطمأنينة ويمنحهم القدرة على أن يكونوا نموذجًا للآخرين.
التواضع لا يعني أن ننظر إلى أنفسنا بنظرة متدنية، بل يعني أننا لا ننظر إلى أنفسنا بشكل مفرط. نحن ندرك أننا لسنا الأفضل في كل شيء وأن لدينا نقاط ضعف واحتياجات للتطور والتحسين في رحلة التغيير. إن هذا المفهوم الحقيقي للتواضع هو ما يجذب انتباه الآخرين ويجعلهم يحترمونا وينظرون إلينا بنظرة أكبر.
يجب أن نتذكر أن التواضع هو صفة ذات قيمة كبيرة. إنها تساعدنا على التواصل مع الآخرين بصدق وتجعلنا قادرين على التعلم والتطور. بدلًا من السعي للثناء والتقدير الدائم، دعونا نسعى لأن نكون متواضعين ومتوازنين في تقدير قيمتنا الحقيقية. فعندما نعيش بتواضع، نجد أنفسنا نحظى بالاحترام والتقدير الحقيقي من الآخرين، ونصبح قدوة للآخرين في طريقة تعاملنا وتفكيرنا.
—