في خضم الرحلة التي نسعى فيها أن نكتشف أنفسنا والبيئة الداخلية والخارجية، ونبني وعيًا صحيحًا عن منظومة القيم العليا التي يجب أن تُشكل شخصيتنا وسماتنا، مع يقيننا أن تكوين وتشكيل الشخصية رحلة طويلة عبر سنين الحياة. فالشخصية – كما عبر عنها أحد علماء النفس – هي مزيج من الطبيعة Nature والتنشئة Nurture. لقد خلقنا الله متفردين ومتميزين عن باقي الخلائق، خلقنا على صورته، وهذا الامتياز الإلهي يعطينا القدرة على التفكير وصنع الاختيارات، فنحن لم نبرمج بالفطرة مثل الحيوانات. إن ما يفصل البشر عن عالم الحيوان هو القدرة المعطاة لهم من الله على التفكير والتعقل وصنع اختيارات متعمدة على أساس القيم والمعايير الأخلاقية، وأن كل خطوة صغيرة نأخذها، وكل اختيار بسيط نقوم به يشكل شخصيتنا، مثلما يتشكل الصخر الجبلي بالرياح والأمطار ويعد تشكيله باستمرار بواسطة العناصر المختلفة، هكذا أيضًا تطوير شخصيتنا، هي عملية تستغرق الحياة بأكملها. فشخصيتنا تُصلح وتتغير بكل اختيار نقوم به.
قال أحدهم: “إننا لا نحفر مقبرة أخلاقية ومعنوية بجرَّافة، بل بمعلقة صغيرة”. بمجرد اختيار واحد سيء، تنزل نزاهتنا واستقامتنا إلى الحضيض، ومعها بالتأكيد تأثيرنا وفاعليتنا. الشخصية هي أمر ديناميكي يحتاج باستمرار إلى القدرة على التحكم لكي نشكلها ونصيغها. فبقدر ما تكون الشخصية هي سبب أفعالنا، بقدر ما هي أيضًا نتاج أفعالنا. لذا يوجد رجاء حقيقي لكل إنسان – بغض النظر عن طبعنا أو ميولنا أو التأثيرات البيئية والثقافية – أن يتغير ويتطور إلى الأفضل.
وعند حديثنا اليوم عن قيمة الاستقامة Integrity، يجب أن ندرك في بادئ الأمر أن الاستقامة لا تعني أننا لن نقترف الأخطاء والسقطات والتعثُّر في رحلة الحياة؛ فليست لها أية علاقة بالكمالية والمثالية. إنما تتعلق في الأساس بصورة الله الخالق التي بداخلنا، وحياة الاستقامة تعكس حضور الله الدائم في حياتنا، فنسعى كل يوم من وراء أفعالنا واختياراتنا وقراراتنا أن نصل إلى هذه النوعية من الحياة التي تُظهر سيادة الله على حياتنا.
أن الأسرة والمجتمع هما أول المجتمعات التي نتعلم فيها قيمًا معينة، فتبدأ بناء شخصيتنا، وتأثير الوالدين والأخوة والأجداد والأقرباء والجيران والأصدقاء، هو أمر حقيقي ومستديم على حياتنا. وحتى الأشخاص الذين لم يتلقوا قسطًا كافيًا صحيًا من خبرة الرعاية الأسرية – لظروف مختلفة – يستطيعوا أن يجدوا البديل في بيئات أسرية أخرى من خلال التجمعات الإنسانية مثل المدارس والنوادي والمساجد والكنائس – وهنا أقصد التجمعات الصالحة – وتستطيع هذه البيئات في أن تساعد في بناء سمات الشخصية. فبغض النظر عن وضعنا، لابد أن نقبل الظروف التي نشأنا فيها؛ فهي جزء من تاريخنا. علينا أن نضع هذه الحقيقة الأكيدة نصب أعيننا باستمرار: “بدون أن نقبل ماضينا بالكامل، لن نكون أحرارًا في مواجهة الحاضر والمستقبل”.
بكل تأكيد قد حصدنا الكثير من الندوب Scars والجراح والمعوقات، قد تشعل فينا ذكريات أليمة تُحي أحداثًا مرت عليها سنين كثيرة وكأنها عمل فني لمخرج درامي مبدع يسيج منها قصة فريدة محبكة تنال أرفع الجوائز في المهرجانات السينمائية الشهيرة، ولكن الخبرة الإنسانية المفرحة بأن الله قادر أن يحولها إلى نجوم Stars تتلألأ في سماء حياتنا، وتعلن إشراق حياة جديدة، فتحول الأطلال والرماد إلى بناء وجمال.
وهنا علينا أن نتبنى توّجهًا سليمًا نحو احترامنا لأنفسنا وذواتنا، هذا التوّجه يوفر تربة خصبة لنمو الشخصية الجيدة التي تسعى لحياة الاستقامة. لا نقصد بكل تأكيد الكبرياء والنظرة المتضخمة للنفس، بل ما يتعلق بمعنى التواضع من حيث الشعور الصحي بذاتي، ومواهبي، وإمكانياتي، والعمل على تنميتها واستثمارها وتوظيفها بالشكل الأمثل الذي ينعكس على حياتي وحياة الآخرين المحيطين في الدوائر المختلفة. إنها اعتراف بفضل الله عليَّ الذي ميزني بوزنات وقدرات وسلطان، والاجتهاد الإنساني – بالاتكال الصادق على الله – يحول هذه الإمكانيات ويجسدها إلى واقع معاش ملموس ليس فقط من الإنجازات والنجاحات المتكررة، بل إلى إبراز صورة القيم الداخلية التي تحركني وتدفعني باستمرار لإظهار هويتي بسبب الكينونة التي خلقني الله لكي أحياها. وهذا يساعدني على التغلُّب على الشعور بعدم الأمان الذي يمكن أن أصارع معه.
وأعظم خطوة في طريق حياة الاستقامة هي إدراكنا لضعفاتنا ومناطق القصور في حياتنا. إن الإخفاء والإنكار يؤخر ويعرقل أي تقدُّم حقيقي. في عالم يُشجع على إظهار القوة والكمال، يمكن أن يكون من الصعب الاعتراف بأننا ليس لدينا كل الإجابات والقدرات. ومع ذلك، فإن الإدراك الصادق لضعفاتنا هو المفتاح الأساسي لنمونا الشخصي وتحسيننا.
عندما نُدرك ضعفاتنا، نكون في وضع أفضل للتعامل معها والعمل على تحسينها. إن السعي للتطوير الذاتي والنمو يتطلب الشجاعة في مواجهة أنفسنا والاعتراف بما هو غير مثالي في حياتنا. وبدلاً من محاولة إخفاء تلك الضعفات، يجب أن نتعلم كيف نُقدرها ونعمل على تحويلها إلى نقاط قوة.
كما أن إدراكنا لضعفاتنا يمكن أن يكون مصدرًا للتحفيز لتعلم المزيد وتنمية مهاراتنا. من خلال العمل على تحسين أنفسنا، نستطيع أن نصبح أشخاصًا أكثر استقامة ونجاحًا. فالاعتراف بأننا لسنا مثاليين يمكن أن يكون بداية لرحلة من التحسين المستمر والنمو الشخصي. دعونا لا نخجل من ضعفاتنا، بل نتعامل معها بصدق وصبر. لا تتوقف عند الإنكار، بل ابحث عن الفرص للتعلم والتطوير. وعندما نتعلم كيف نتعامل مع ضعفاتنا بشكل بناء، نستطيع أن نحقق تقدمًا حقيقيًا في حياتنا ونعيش حياة استقامة تملؤها النجاح والسعادة.
قال الأديب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري (1900 – 1944): “إن أردت أن تبني سفينة، لا تجنَّد الناس لجمع الخشب، وتقسيم العمل، وإعطاء الأوامر. بدلًا من ذلك، علمهم أن يتوقوا إلى البحر الواسع غير المحدود”.
في رحلة الاستقامة، لا يكمن الجوهر في البدء بجمع الخشب لبناء السفينة. لا يهم مهاراتك أو إمكاناتك الفريدة، ولا تهم شهاداتك العلمية أو علاقاتك الاجتماعية. للأسف، لن تتحقق الاستقامة من خلال التركيز على الجوانب الخارجية فقط. مهما حاولت بذل الجهود، ستواجه الفشل المحتوم إذا كنت تتجاهل الجانب الداخلي. فالاستقامة Integrity في أبسط معنيها وأعمقها في ذات الوقت هي؛ أن ما نبدو عليه من الخارج هو ما نحن عليه من الداخل. لا يوجد تناقض بين مظهرنا وباطننا. ففي حياة الإنسان المستقيم، لا توجد انقسامات أو اختلافات في القرار الذي يتخذه الإنسان من موقف إلى آخر.
ولكن، عندما تبدأ رحلة الاستقامة من الداخل إلى الخارج، بتحول قلبك وتفكيرك، وجعل الاستقامة قيمة أساسية في حياتك، ستتعلم المهارات الضرورية للتعبير عن هذه الاستقامة. ستشعر الناس بالفارق والتأثير الإيجابي الذي تحمله حياتك.
إذًا، لندع الاستقامة تتسلل إلى أعماقنا وتتغلغل في وجداننا. فعندما نكون مستقيمين من الداخل، ستنطلق قوتنا وإبداعنا لتحقيق الأهداف العظيمة وتغيير العالم من حولنا. دع الاستقامة تكون دليلك في كل تصرف، وسيصبح النجاح والسعادة نتاجًا طبيعيًا لهذه الرحلة المُلهمة.