علي جبل التجلي
علي جبل التجلي, وقف ثلاثة يضيئون بنور مجيد وكانوا ثلاثتهم ممن أتقنوا الصوم… إذ صام كل منهم أربعين يوما وأربعين ليلة. إنهم: السيد المسيح له المجد (متي4:2), وموسي (خر40:28) وإيليا (1مل19:8).
فهل يختفي وراء هذا المنظر البهي معني مهم: وهو أنه بقهر الجسد في الصوم تتجلي الروح, ويتجلي الجسد؟ هل اختار السيد المسيح معه في التجلي اثنين من الصوامين, ليرينا أن الطبيعة التي ستتجلي في الأبدية, هي التي قهرت الجسد بالصوم؟
تري ماذا قيل عن الصوم أيضا؟ لقد قيل:
الصوم أقدم وصية:
الصوم هو أقدم وصية عرفتها البشرية, فقد كانت الوصية التي أعطاها الله لأبينا آدم, هي أن يمتنع عن الأكل من صنف معين بالذات, من شجرة معينة (تك2:16 ـ 17), بينما يمكن أن يأكل من باقي الأصناف.
وبهذا وضع الله حدودا للجسد لا يتعداها.
فهو ليس مطلق الحرية, يأخذ من كل ما يراه, ومن كل ما يهواه… بل هناك ما يجب أن يمتنع عنه أي أن يضبط إرادته من جهته وهكذا كان علي الإنسان منذ البدء أن يضبط جسده.
فقد تكون الشجرة جيدة للأكل, وبهجة للعيون, وشهية للنظر (تك3:6), ومع ذلك يجب الامتناع عنها.
وبالامتناع عن الأكل يرتفع الإنسان فوق مستوي الجسد, ويرتفع أيضا فوق مستوي المادة, وهذه هي حكمة الصوم.
ولو نجح الإنسان الأول في هذا الاختبار وانتصر علي رغبة جسده في الأكل, وانتصر علي حواس جسده التي رأت الشجرة فإذا هي شهية للنظر… لو نجح في تلك التجربة, لكان ذلك برهانا علي أن روحه قد غلبت شهوات جسده, وحينئذ كان يستحق أن يأكل من شجرة الحياة.
ولكنه انهزم أمام الجسد, فأخذ الجسد سلطانا عليه.
وظل الإنسان يقع في خطايا عديدة من خطايا الجسد, واحدة تلو الأخري, حتي أصبحت دينونة له أن يسلك حسب الجسد وليس حسب الروح (رو8:1)
وجاء السيد المسيح, ليرد الإنسان إلي رتبته الأولي .
ولما كان الإنسان الأول قد سقط في خطية الأكل من ثمرة محرمة خاضعا لجسده, لذلك بدأ المسيح تجاربه بالانتصار في هذه النقطة بالذات بالانتصار علي الأكل عموما حتي المحلل منه.
بدأ المسيح خدمته بالصوم, ورفض إغراء الشيطان بالأكل لحياة الجسد, أظهر له السيد المسيح أن الإنسان ليس مجرد جسد, إنما فيه عنصر آخر هو الروح, وطعام الروح هو كل كلمة تخرج من فم الله فقال له:
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله (متي4:4).
ولم تكن هذه قاعدة روحية جديدة, أتي بها العهد الجديد إنما كانت وصية قديمة أعطيت للإنسان في أول شريعة مكتوبة (تث 8:3).
وهكذا صام الأنبياء:
إننا نسمع داود النبي يقول أذللت بالصوم نفسي (مز35:13), ويقول أبكيت بالصوم نفسي (مز69:10) ويقول أيضا ركبتاي ارتعشتا من الصوم (مز109:24). كما أنه صام لما كان ابنه مريضا وكان يطلب نفسه من الرب, وفي صومه بات مضطجعا علي الأرض (2صم12:16).
وقد صام دانيال النبي (دا 9:3) وصام حزقيال النبي أيضا (حز4:9).
ونسمع أن نحميا صام لما سمع أن سور أورشليم منهدم وأبوابها محروقة بالنار (نح1:4,3), وكذا صام عزرا الكاتب والكاهن ونادي بصوم لجميع الشعب (عز8:21).
وقد قيل عن حنه النبية إنها كانت لاتفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات (لو2:37).
وصام الرسل:
في العهد الجديد, كما صام المسيح, صام رسله أيضا…
وقد قال السيد المسيح في ذلكحينما يرفع عنهم العريس حينئذ يصومون (متي9:15)… وقد صاموا فعلا. وهكذا كان صوم الرسل أقدم وأول صوم صامته الكنيسة المسيحية وقيل عن بطرس الرسول أنه كان صائما حتي جاع كثيرا واشتهي أن يأكل (أع10:10) فظهرت له الرؤيا الخاصة بقبول الأمم وهكذا كان إعلان قبول الأمم في أثناء الصوم… وبولس الرسول كان يخدم الرب في أتعاب في أسهار في أصوام (2كو6:5) بل قيل عنه في أصوام مرارا كثيرة (2كو11:27) وقيل أنه صام ومعه برنابا (أع14:23).
وفي أثناء صوم الرسل كلمهم الروح القدس.
إذ يقول الكتابوفيما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس: أفرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا عليهما الأيادي (أع13:2 ـ 3).
وما أجمل ما قاله الرب للرسل عن الصوم وعلاقته بإخراج الشياطين: هذا الجنس لا يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم (مت17:21) إلي هذه الدرجة بلغت قوة الصوم في إرعاب الشياطين.
ولم يكن الصوم قاصرا علي الأفراد, إنما كان الشعب كله يصوم.