سئل القديس يوحنا الأسيوطي من هو الإنسان الكامل في المعرفة؟. فأجاب, هو الذي يحسب جميع الناس أفضل منه. وقال أيضا: إن عاملنا أنفسنا كخطاة, لاندان كخطاة.
وقال القديس أوغسطينوس: علي قدر ضخامة البناء الذي يشيد, ينبغي أن يكون عمق الأساس الذي يحفر إلي أسفل. وكلما يرتفع البناء, هكذا يجب أن ينخفض الأساس, فإذا كانت القمة عالية, وهي رؤية الله, وملكوته وسمائه, يجب إذن أن نعمق الأساس, وننزل إلي تحت بالاتضاع… وهكذا تري البناء أولا تحت, قبل أن يكون فوق, والقمة لا ترتفع بعد الاتضاع.
وقال أيضا: إن الاتضاع هو الفضيلة المعتبرة بوجه خاص في مدينة الله, إذ كانت بوجه خاص من مميزات المسيح ملكها, وهو أوصي بها سكانها أثناء غربتهم الحالية علي الأرض. وبنفس الوضع تكون الكبرياء, التي هي الرذيلة المضادة لهذه الفضيلة, وهي المسيطرة بوجه خاص علي الشيطان مقاوم المسيح. هي المميزة لمدينة الشيطان.
قال القديس أوغسطينوس أيضا في تفسير المزمور 93:
إن المتواضعين كالصخرة, قد تنزل إلي أسفل. ولكنها ثابتة راسخة. ومن هم المتكبرون؟ إنهم كالدخان. علي الرغم من أنه يرتفع, إلا أنه يتلاشي..
قال الشيخ الروحاني: تسربل يا أخي بالتواضع في كل وقت, لأنه يلبس نفسك المسيح بعظمه.
وقال بلاديوس: عن إيمان أحد كهنة الأوثان, … ودهب صار راهبا. ومن بداية حياته تمسك جدا بالاتضاع. وكان يقول: إن التواضع يستطيع أن يبطل كل قوة المعاند. كما سمعت من الشياطين الذين كانوا يقولون, كلما نثير الرهبان يتحولون إلي التواضع, ويعتذرون بعضهم لبعض, وهكذا يبطلون كل قوتنا.
وقال الشيخ الروحاني: ذخيرة المتضع داخله, الذي هو الرب. وقال أيضا: من لا يحبك أيها المتضع الطيب إلا المفتخر والمتقمقم. الذي أنت غريب عن عمله تأملوا أولئك الجبابرة آباءنا, كيف طرقوا لنا الطريق, إذ لبسوا التواضع الذي هو رداء المسيح, وبه رفضوا الشياطين وربطوه بقيود الظلمة…
أنبا تادرا, الذي كان بقيود صلاته يربط الشياطين خارج قلايته, كان يجعل نفسه آخر جميع الناس, ومن الخدمة الكريمة كان يهرب… حقا إن مسكن الله هو نفس المتواضع كما قال القديس مارأوغريس:
يطأطيء المتواضع رأسه بروح متضعة, ويكون مسكنا للثالوث القدوس.
وقال القديس سمعان العمودي: الاتضاع هو مسكن الروح وموضع راحته.. المتضع لا يسقط أبدا. كيف يسقط وضميره وفكره تحت كل الناس؟! سقوط عظيم هو الكبرياء, وعلو عظيم هو الاتضاع. فلنعرف نفوسنا عليه…
وقال مار آفرام: نجاح عظيم وشرف مجيد هو الاتضاع, وليست فيه سقطة.
وقال مار إسحق: الاتضاع يتقدم النعمة, والعظمة تتقدم التأديب. أما عن عبارته الأولي فتوافق قول القديس يعقوب الرسول يقاوم الله المستكبرين.. أما المتواضعون فيعطيهم نعمة (يع4:6), ذلك لأن المتواضعين إذا عملت فيهم النعمة ونجحوا, لا ترتفع قلوبهم بسبب نجاحهم, بل يقول كل منهم مع القديس بولس الرسول ولكن لا أنا, بل نعمة الله التي معي (1كو 15:10). ويذكرون باستمرار قول الرب بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا (يو 15: 5). بعكس ذلك المتكبر فعلي العكس: كلما عملت فيه النعمة عملا, ينسبه لنفسه فيزداد كبرياء.
أما عبارة مار إسحق: إن العظمة تتقدم التأديب, فلعله اعتمد فيها علي ما قيل في سفر الأمثال:
قبل الكسر الكبرياء. وقبل السقوط تشامخ الروح (أم 16:18).
ذلك لأن المتكبر حينما ينتفخ قلبه, تتخلي عنه النعمة, فيسقط, حتي يشعر بضعفه, فيتضع, ولا يعود ينسب كل نجاح إلي قدرته وكفاءته, وذكائه وقدراته… ناسيا عمل الله! وأيضا يسقط هذا المتكبر, لأن الله يقاوم المستكبرين كما قال الرسول (يع 4:6). ولأن المستكبرين لا يضعون الله أمامهم, ولا يعطون مجدا لله, كما فعل هيرودس الملك, فضربه ملاك الرب, وصار يأكله الدود ومات (أع12:23).. هكذا نهاية المتكبرين..
وللقديس أوغسطينوس تأملات في بعض المزامير الخاصة بالاتضاع.
مثل قريب هو الرب من المنكسري القلوب, ويخلص المنسحقي الروح (مز34:18). وأيضا الرب عال ويعاين المتواضعين (مز38:6). وكذلك من مثل الرب إلهنا الساكن في الأعالي والناظر إلي المتواضعين في السماء وعلي الأرض المقيم المسكين من التراب, والرافع البائس من المزبلة, ليجلسه مع رؤساء شعبه (مز113:5-8). فيقول القديس أوغسطينوس:
سر عظيم يا إخوتي: الله فوق الكل. ترفع نفسك فلا تلمسه. تضع ذاتك فينزل إليك..
إن الله يسكن في الأعالي, في السماء. هل تريد أن يقترب إليك؟ اتضع. لأنه علي قدر ما ترفع نفسك, علي قدر ما يرتفع هو عنك.. أنت تعلم أن الله عال, فإن جعلت ذاتك عالية مثله, فسيبعد عنك..
الله عال, ويعاين الأشياء المتواضعة في السموات وعلي الأرض. فهل هذه الأشياء المتواضعة التي يعاينها, هي ذات مسكنه العالي. لأنه هكذا يرفع المتواضعين. لذلك فهو يسكن في أولئك الذين يرفعهم إلي الأعالي, ويجعلهم سموات لنفسه.. إنه الرب العالي, الساكن في قديسيه.
فإن كان الرب إلهنا يعاين متواضعات أخري في السماء, غير التي يعاينها علي الأرض, فإني أفترض أنه يعاين في السموات المتواضعين الذين دعاهم والذين يسكن فيهم, بينما علي الأرض يعاين الذين يدعوهم لكي يسكن فيهم..
قال القديس دوروثيئوس: الذي يبني بيتا, لابد أن يضع ملاطا (مونة) علي كل حجر, لأنه إن وضع حجرا علي حجر بدون ملاط, فإن الحجارة تسقط, والبيت كله ينهار.. فإن كانت الحجارة في بناء النفس هي الفضائل, فإن الملاط يكون هو التواضع, حيث إنه يؤخذ من الأرض, وهو تحت قدمي كل أحد.. وكل فضيلة تمارس بدون تواضع ليست هي فضيلة.
وصدق القديس دوروثيئوس لأن الآباء قد قالوا:
كل فضيلة يعملها الإنسان بدون اتضاع, تكون طعاما لشيطان المجد الباطل..
وفي ذلك قال مار إسحق أيضا: كما أن الملح يصلح لجميع المآكل, هكذا هو الاتضاع لكل الفضائل.. لأنه بدونه باطل هو كل عمل وكل فضيلة.
قال القديس باسيليوس الكبير: التواضع هو الكنز الذي يحفظ جميع الفضائل..
قال القديس مارأوغريس: التواضع هو عطية من الثالوث القدوس. هو طريق الملائكة, ونار علي الشياطين.. وهو غني لا يسرق..
ويتفق مارإسحق مع مارأوغريس في أن التواضع عطية من الله. فيقول عنه: التواضع هو موهبة عظية..
هل يمكن أن يكون إنسان هكذا (مرزولا في عيني نفسه)؟! هل يستطيع الطبع لن يغير ذاته هكذا؟! لأجل هذا لا تشك أن التواضع قوة سرية, حيث لا يتحايل إنسان أن يكون هكذا, بل بغير تغصب من كل قلبه.
وقال القديس أوغسطينوس: أنت تريد أن تحصل علي كل شيء.. اطلب ذلك عن طريق الاتضاع..
لما قالت المرأة الكنعانية: نعم يارب, ولكن الكلاب تأكل من الفتات الساقط من مائدة أسيادها سمعت يا امرأة عظيم إيمانك (متي15:27-28). وأيضا لما قال قائد المائة: لست مستحقا أن تدخل تحت سقفي, قال الرب: الحق لم أجد ولا في إسرائيل إيمانا عظيما مثل هذا (لو7:6-9).
فلنتمسك بالاتضاع. إن لم يكن لنا حتي الآن, فلنتعلمه. وإن كان لنا فلا نفقده.. ولنقبل في هذا العالم وصية الاتضاع, لكي نستحق في العالم الآخر أن نتقبل الرفعة التي وعد بها المتضعين..