دار الحضانة, المكان الضروري والحيوي الذي يذهب إليه الطفل عندما تكون الأم عاملة أو موظفة, هذه الدار ما دورها في حياة الطفل, ما التأثيرات التي تتركها علي نفسيته, وكيف تشكل سلوكه وتصرفاته ونظرته للحياة, كيف يمكن أن تخلق حالة من القلق والتوتر والبلبلة للطفل وكيف يمكن أن تكون ذات فائدة عظيمة لطفل آخر.
لا يختلف اثنان علي أهمية دار الحضانة, خاصة في عصرنا الحديث, فهي ضرورة حيوية في كل مكان وكل حي وكل مكان عمل, وهي الحل الأول لمشكلة الأم العاملة التي يحيرها ويضنيها التفكير في مكان أمين تضع فيه طفلها وهي غير قلقة أو خائفة عليه وتنادي الأصوات بوجوب وجود دور الحضانة في كل مكان.
ولكن هذه الدار سلاح ذو حدين فهي ليست عبارة عن المباني والطوب والمقاعد والأسرة ومجموعة اللعب والمراجيح, وإنما هي حياة جديدة وتعامل مع نوعيات مختلفة من البشر تترك بصماتها وعلامتها المميزة علي شخصية الطفل. ومن أطرف البحوث التي قرأتها حول دور الحضانة بحث نفسي عن الآثار التي تتركها دور الحضانة علي نفسية الطفل الذي يتربي وينشأ بها.
إن نفسية الطفل وسلوكه السوي يتكون ويتشكل في السنوات الخمس الأولي من عمره, وهذه السنوات في نظر علم النفس سنوات حيوية ذات تأثير بالغ ولذلك فإن الاهتمام بها يكون كبيرا, ولما كان الطفل الذي يتربي في دار الحضانة يقضي معظم هذه السنوات بها لذلك فإن تأثير الدار عليه أهم وأقوي من تأثير البيت, ونحن نسمع كثيرا عن المشكلات التي يعيش فيها الطفل عندما تكون هناك خلافات في وجهات النظر بين الأم والأب علي طريقة تربية الطفل وتوجيهه أو بين رأي الأم ورأي الحماة وأسلوبها في التربية عندما يكون الطفل متنقلا بين بيت أمه وبيت جدته. فإن هذه الاختلافات تؤدي إلي حيرة الطفل وبلبلته وقلقه, ويميل غالبا إلي الجانب الذي يتساهل معه ويدلله ويلبي له معظم طلباته.
ولكن في حالة دار الحضانة فإن المشكلة تصبح أشد وأخطر. ففي دار الحضانة هناك الدادة والمربية والمشرفة والزملاء من الأطفال الصغار, ولكل واحدة من هؤلاء أفكارها, وقيم تؤمن بها, وتقاليد تحترمها, واعتبارات كثيرة تؤثر علي وجهة نظرها في الحياة.
والطفل الرضيع في شهوره الأولي يتلفت حوله ولا يستطيع أن يدرك مما يدور حوله الشيء الكثير ولكنه يتعود علي جو الجماعة, يتعود علي أن يكون دائما وسط أطفال من سنه, وسط جو صاحب بالضجيج, يتعود علي وجوه غريبة كثيرة تطل عليه بين آن وآخر, وهو نادرا ما ينشأ منطويا أو خائفا أو جبانا, فهو في الغالب ينشأ اجتماعيا يحب الآخرين, ولا يهاب الغرباء أو الكبار, وعادة تصبح عملية ذهابه إلي المدرسة أسهل وأيسر, فلا تكون هناك مشكلة أو خوف من المكان الجديد الذي سيذهب إليه لأول مرة, ولا خوف من المدرسات أو الزملاء الصغار, ولكنه بالطبع سيتأثر بقيم كثيرة وأفكار متباينة وطباع مختلفة, وهو في ذلك يستوي مع الطفل الذي يذهب إلي دار الحضانة وهو أكبر من سن الرضاعة, وهما يقضيان في دار الحضانة بين الزملاء والمشرفات أطول مما يقضيانها في البيت بين الأب والأم, ولذلك من الصعب علي الأم أو الأب أن يسيطر علي طفله, ويخضعه لرأيه ويجبره علي طاعته, إن طفل الحضانة يتعود علي الرد والمناقشة ويستمع إلي رأي المشرفة ويتشبع بطباعها, إن كثيرا من الأشياء التي تؤكد له الأم إنها خطأ ولا تليق تحدث أمامه في الحضانة ودون أن يستمع إلي كلمة لوم واحدة من أحد عليها, وما تقول عنه المدرسة أو المشرفة إنه شيء عظيم, تعاقبه عليه أمه بشدة, وإذا كانت الأم والأب يختلفان فيما بينهما علي أسلوب التربية والقيم التي يجب بثها في الطفل, فلابد أن يكون الاختلاف أشد وأقوي بين الأم ومجموعات كبيرة من المشرفات والمربيات.
ويؤكد علم النفس في هذا البحث التأثير النفسي الكبير علي طفل الحضانة ولكنه يعرف أنه لا مفر من اللجوء إلي دار الحضانة في هذا العصر, وكل الذي يرمي به علم النفس أن يكون في كل دار حضانة برامج تدريبية نفسية تعلم المشرفة والدادة والمربية أساليب التربية الحديثة, وأن يتم اختيارهن علي قدر ومستوي من التعليم مناسب, وأن يكون المشرف العام علي كل حضانة أخصائيا في علم النفس يري ويراقب ويصلح العيوب قبل أن تستفحل.