تحدثت الأسبوع الماضي مستعرضا التداعيات المتوقعة بعد رحيل الملكة إليزابيث الثانية وجلوس الملك تشارلز الثالث علي العرش من حيث التهديدات بانفراط عقد كل من المملكة المتحدة نفسها, ومن بعدها الدول التابعة للتاج البريطاني ومجموعة دول الكومنولث, وهو الأمر الذي سيرقبه العالم بكثير من الاهتمام باعتبار النتائج التي ستترتب عليه سياسيا واقتصاديا لها انعكاسات علي التوازنات العالمية.
لكن بجانب ذلك هناك ملف الحرب الروسية الأوكرانية الذي تعتريه تداعيات خطيرة في الآونة الأخيرة من شأنها أن تسرق الأضواء وتدفع العالم إلي أن يقف حابسا أنفاسه لما سوف تسفر عنه من تغييرات علي الأرض وردود أفعال الأطراف المتحاربة لاستعادة سيطرتها علي مقدرات المعارك وبلوغ أهدافها من ورائها… فها هي الأنباء تحمل لنا ما يفيد دخول العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا منعطفا جديدا بتحقيق الجيش الأوكراني انتصارات علي القوات الروسية نتج عنها استعادته لمساحات تقدر بثمانية آلاف كيلومتر مربع وانسحاب القوات الروسية منها.. الأمر الذي يعتبر نصرا مرحليا للأوكرانيين في مقابل هزيمة مرحلية للروس.
لم يقف الأمر عند ذلك التطور حيث سارعت روسيا بإعلان التعبئة العسكرية الجزئية للجيش الروسي باستدعاء نحو 300 ألف من قوات الاحتياط توطئة لتوجيه ضربات مضادة بهدف استعادة زمام الانتصارات ودحر القوات الأوكرانية, كما لوحت روسيا بالتهديد بلجوئها إلي استخدام السلاح النووي إذا لزم الأمر لحسم المعارك.
ولا يخفي علي أحد أن ما يحدث ليس نتيجة حرب تجري بين روسيا وأوكرانيا, إنما حقيقتها احتدام المواجهة وصراع القوة والهيمنة بين الولايات المتحدة وأعوانها الأوروبيين وبين روسيا والصين علي قيادة العالم, ذلك الصراع الذي كشف الوجه القبيح للولايات المتحدة التي في سبيل انفرادها بقيادة العالم كقطب أوحد ومقاومتها وجود عالم متعدد الأقطاب لم تتورع في استفزاز روسيا واستدراجها إلي الحرب التي نحن بصددها والتي تحاربها عنها بالوكالة أوكرانيا… أوكرانيا تقدم نفسها وشعبها وأراضيها ومواردها ذبيحة علي مذبح تلك الحرب في مقابل إغراق أمريكا والدول الأوروبية لها بالمساعدات المالية والعسكرية, حتي تحولت إلي حرب علنية بين الترسانة العسكرية والقدرة الاقتصادية الغربية وبين مثيلتها الروسية الصينية… بل فوق ذلك, وهو مالا يمكن التقليل من شأنه أنها باتت حرب كرامة ونفوذ بالنسبة لروسيا التي أعلن رئيسها فلاديمير بوتين أنها لن تقبل إهانتها علي الإطلاق.
وكما سبق أن وجه بوتين خطابه الشهير للشعب الروسي في مستهل الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير الماضي.. وهو ما عرضته تفصيلا في هذا المكان بتاريخ 2022/3/6 تحت عنوان ماذا يقول بوتين عن اجتياح روسيا لأوكرانيا.. يخرج بوتين بخطابه الثاني الذي تم وصفه بأنه خطاب ناري جاء في أعقاب الإعلان عن الاستفتاءات الشعبية التي تم إجراؤها في جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك علاوة علي مقاطعتي زابوروجيه وخيرسون لاستعادة تبعيتها التاريخية لروسيا, وما صاحب ذلك من صخب واعتراضات وما واكبه من انتصارات أوكرانية في ساحات المعارك… فماذا قال بوتين في هذا الخطاب الثاني؟
** في عام 1991 قال زعماء أوكرانيا إنهم تمكنوا من تقسيم الاتحاد السوفيتي والآن يقولون إنه حان الوقت لتقسيم روسيا نفسها معتمدين علي ما قام به حلف الناتو من تطوير البنية التحتية الهجومية علي مقربة مباشرة من الحدود الروسية… تلك السنوات الطوال شهدت اتصالات ومباحثات استهدفت التوصل إلي حل سلمي بما جري توقيعه تحت مسمي اتفاقيات مينسك تحت رعاية مجموعة نورماندي التي ضمت زعماء ألمانيا وفرنسا وروسيا مع الرئيس الأوكراني السابق بيتر بوروشينكو عام 2015, ورغم رفض القيادات الأوكرانية المتعاقبة تنفيذ هذه الاتفاقيات, أدت الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة خلال المباحثات التي جرت في إسطنبول بتركيا إلي رد فعل إيجابي للغاية علي المقترحات الروسية والتي تتعلق بأمن روسيا ومصالحها, لكن من الواضح أن الحل السلمي لم يناسب الغرب, لذلك وبالرغم من التوصل إلي حلول وسط بين روسيا وأوكرانيا قامت القوي الغربية بإعطاء كييف أمرا مباشرا لتعطيل جميع الاتفاقات.
** بناء عليه سارع الرئيس الأوكراني بإعلان رفضه الالتزام بما تم التوصل إليه من قرارات لتتحول أوكرانيا إلي طريق التصعيد اعتمادا علي المساعدات الأمريكية الأوروبية وما جري تشكيله من عصابات المرتزقة التي يتم تدريبها وفقا لمعايير الناتو وتحت القيادة الفعلية للمستشارين الغربيين… إن هناك في واشنطن ولندن وبروكسل من يدفع كييف مباشرة إلي نقل العمليات العسكرية إلي أراضي روسيا بهدف هزيمتها بأية وسائل بدءا بقصف محطة الطاقة النووية في زابوروجيه والذي يهدد بكارثة نووية ولكن أيضا بتصريحات بعض كبار ممثلي الناتو حول إمكانية استخدامها أسلحة الدمار الشامل ضد روسيا.
** إن البلدان الغربية تجاوزت في سياساتها العدوانية المعادية لروسيا كل الخطوط الحمراء بهدف تعلنه وهو حسم المعركة في ساحة القتال وليس حول مائدة المفاوضات عبر السبل السياسية والدبلوماسية… والمسئولون في الغرب لا يتوقفون عن الحديث عن خطط لتنظيم توريد أسلحة هجومية بعيدة المدي لأوكرانيا, والناتو يقوم باستخدام الأنظمة الحديثة من طائرات استراتيجية بدون طيار مهمتها الاستطلاع في جميع أنحاء جنوب روسيا.
** لقد ظللنا نطالب الغرب منذ عام 1997 بالتوقف عن محاولات توسع الناتو شرقا, وقد قمت في مؤتمر الأمن الأوروبي في ميونيخ بألمانيا في فبراير عام 2007 بالتحذير من مغبة تمسك الولايات المتحدة وحلفائها بنظام عالم القطب الواحد مؤكدا ضرورة التحول نحو عالم متعدد الأقطاب, وتحليت منذ ذلك الحين بالكثير من الصبر وتوخي الحذر وانتظرت لمدة ثماني سنوات تنفيذ اتفاقيات مينسك وما طرأ عليها من تعديلات قدمها الرئيس الألماني شتاينماير دون أي استجابة من السلطات الأوكرانية في كييف. ولكن يبدو أن الغرب عاقد العزم علي ضرورة الإطاحة بروسيا ونظام بوتين وما لابد أن يعقب ذلك من تفتيت روسيا علي غرار ما حدث مع الاتحاد السوفيتي السابق, وليس أدل علي ذلك مما صرح به الرئيس بايدن عني بقوله: هذا الرجل لابد أن يرحل.
*** المؤشرات كلها تشير إلي إصرار أمريكا والدول الأوروبية علي سحق روسيا وكسر شوكتها, ولا تترك هامشا كريما للتسوية السلمية عبر مائدة المفاوضات… وعلي الجانب الآخر تقف روسيا بثقلها التاريخي والحضاري رافضة تماما العبث بكرامتها وعاقدة العزم علي اللجوء لكافة أسلحتها من أجل الذود عن ذلك… فماذا تحمل لنا الأيام؟!!