أعود وأفتح ملف المسكوت عنه في فلسطين وغزة لأرصد الأصوات الشجاعة الحرة التي تأبي أن تتواري أمام عنفوان تيارات التعتيم علي الحقائق, تلك التيارات التي باتت علامة مميزة علي العالم الغربي الذي طالما تشدق بحرية الرأي والشفافية, لكننا نراه الآن وقد تخلي عنها لحساب تجميل إسرائيل وغض البصر عما تقترفه من جرائم في حق الإنسانية, ولا يتورع في سبيل ذلك عن تزييف الواقع وتضليل العقول… لكن يظل الأمل فيما يتسلل خارجا من النفق المظلم لينير العقول ويعلي الحقائق… وقبل أن أخوض في المادة الرئيسية لهذا المقال وهي حوار جري مع أحد المفكرين الاستراتيجيين, دعوني أقدم كلمة صرح بها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر وهو الرئيس الـ39 للولايات المتحدة الأمريكية (1977-1981) والحائز علي جائزة نوبل للسلام عام 2002 نظير جهوده الدؤوبة في التصدي للقضايا التي تهدد السلام العالمي ومنها القضية الفلسطينية… فماذا قال جيمي كارتر عن جهل الأمريكيين بما يحدث وأسبابه؟.. وكان ذلك ضمن حوار أجرته معه عام 2007 إيمي جودمان لبرنامجها الديمقراطية الآن.
** الأمريكيون لا يريدون أن يعرفوا, والكثير من الإسرائيليين لا يريدون أن يعرفوا أيضا, ما يحدث داخل فلسطين هو نموذج رهيب للاضطهاد وانتهاك مروع لحقوق الإنسان يتجاوز كثيرا ما قد يتخيله أي شخص خارجها, وهناك قوي سياسية نافذة في أمريكا تمنع أي تحليل موضوعي للمشكلة القائمة في الأراضي المقدسة, بل الحقيقة أنه لا يوجد عضو واحد في الكونجرس الأمريكي يجرؤ علي التحدث علنا عما يحدث هناك أو أن يطالب إسرائيل بالانسحاب إلي حدودها القانونية, أو أن يتعرض لمأساة الفلسطينيين داعيا لإجراء محادثات سلام تحركها نوايا حسنة… منذ سنوات طويلة لم نر محادثات سلام, لماذا؟.. لأن هذا أصلا أمر محظور الحديث عنه أو الخوض فيه, وإذا تحدث أي عضو في الكونجرس عن هذا الأمر فعلي الأرجح لن يعود مرة أخري لعضوية الكونجرس في أية انتخابات لاحقة.
والآن أعود إلي الحوار المهم الذي استوقفني والذي جري بين فريدي سياز مقدم برنامج الأخبار غير المتعارف عليها أو UNHERD NEWS وجون جوزيف ميرشايمر المفكر السياسي الأمريكي والخبير في العلاقات الدولية والذي ينتمي إلي المدرسة الواقعية في التفكير… (مواليد 1947 يبلغ عمره 77 عاما) ويعد واحدا من أكثر المؤثرين في الأمور السياسية ضمن جيله ويشغل منصب أستاذ محاضر في العلوم السياسية بجامعة شيكاجو… وأستعرض هنا أهم الملامح التي شملها هذا الحوار:
** أود أن أسجل رأيي فيما يحدث في قطاع غزة بغض النظر عن الهجوم الذي أتعرض له من الكثيرين بسبب ما يرونه تناقضا في آرائي بين ما يحدث علي الجبهة الأوكرانية وبين ما يحدث في قطاع غزة, فهناك بعد أخلاقي يجب ألا نغفله عندما نتحدث عن الصراع بين إسرائيل ومنظمة حماس, ولست أشعر بأي حرج عند قيامي بتحليل وإدانة ما ترتكبه إسرائيل في غزة, فبينما من الطبيعي أن يكون لإسرائيل رد فعل تجاه ما فعلته حماس في 7 أكتوبر الماضي, لا يوجد تبرير عسكري لأن تطلق إسرائيل حملة شعواء تتسبب في مذابح يروح ضحيتها أعداد غفيرة من الفلسطينيين مع تدمير مدنهم وتجويعهم وتتحول إلي حملة إبادة شعواء تعاقب الشعب الفلسطيني كله عما فعلته حماس, ودعني أقول إن فارق القوة العسكرية بين الجيش الإسرائيلي الذي يعد من أقوي جيوش المنطقة -إن لم يكن من أقوي جيوش العالم- تنظيما وتسليحا وامتلاكا لترسانة عسكرية وأسلحة نووية متقدمة جدا, وبين ما تمتلكه حماس من بعض الأسلحة التقليدية والقنابل والصواريخ محدودة التأثير, يجعل من الصراع بينهما صراعا غير متكافئ ويفضح التناقض الصارخ بين فعل حماس ورد فعل إسرائيل.
** فارق القوة العسكرية هذا أدي إلي لجوء حماس -ومعها فصائل المقاومة الفلسطينية- إلي الاختفاء تحت الأرض في شبكات الأنفاق وخلف ما يطلق عليه الدروع البشرية من أجل حماية نفسها, لكن في الوقت نفسه لا يستقيم أن تنطلق إسرائيل في قصف المنشآت المدنية وتدمير البنية التحتية وتشريد السكان المدنيين العزل في غزة متذرعة باستهداف مراكز قيادة حماس القابعة بينها وأسفلها… وأكبر مثال صارخ علي هذا الجرم ما حدث من تدمير مستشفي الشفاء في غزة حيث لم تستدل علي أية مراكز قيادة أو مخازن سلاح وثبت أن ما تدعيه إسرائيل غير حقيقي ولا أساس له من الصحة بالرغم من امتلاكها جميع وسائل الرصد والتصوير طبقا لأحدث تقنيات التكنولوجيا الحديثة.
** الحقيقة الصادمة أنني وسط كل ما حدث ويحدث, أصبحت أتشكك في أن حل الدولتين لا يزال مطروحا في هذا الصراع وذلك لأن ما تفعله إسرائيل ينم عن رغبة جامحة في العودة إلي حلم إسرائيل الكبري بما فيه الضفة الغربية وقطاع غزة وحدود ما قبل حرب 1967… هذه الدولة تضم 7.30 مليون مواطن يهودي في مقابل 7.30 مليون مواطن فلسطيني وذلك الواقع يخلق مشاكل جمة لإسرائيل لأنه يحول دون وجود دولة ديمقراطية يمكن أن يتجاوز مواطنوها الفلسطينيون مواطنيها اليهود… وبعد أن كنت مؤيدا لحل الدولتين تراجعت عنه بعد إبرام معاهدة كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر عام 2000 حيث تراجعت بعدها إسرائيل عن فكرة حل الدولتين, أضف إلي ذلك كل ما يحدث الآن وما يخلقه من مشاعر عدائية ومرارة غير محدودة بين الفلسطينيين والإسرائيليين من شأنه أن يجعل حل الدولتين بعيد المنال أكثر من ذي قبل, وأضبح من العسير تصور جلوس الطرفين أمام بعضهما البعض علي مائدة مفاوضات يظللها حسن النوايا والرغبة في السلام… وأخشي أن أقول إن المصير المحتوم لهذا الصراع هو استمراره مع استمرار وجود إسرائيل كدولة عنصرية تعيش في حالة صراع دائم وعدم أمان نتيجة مقاومتها تأسيس دولة فلسطينية مستقلة مجاورة لها… ينبغي علي إسرائيل أن تعي أن المشكلة الفلسطينية لا يمكن أن تحل عسكريا إنما يتحتم أن تحل سياسيا.
** الولايات المتحدة تربطها علاقات خاصة بإسرائيل لا يوجد مثيل لها في التاريخ الحديث, وذلك ينعكس علي مؤازرتها لإسرائيل بغض النظر عن أي شيء ترتكبه, وذلك بالقطع ناتج عن تأثير جماعات الضغط وعلي رأسها اللوبي اليهودي وانعكاسه علي مصادر رسم السياسات وصناعة القرار… فها هي أمريكا تغض البصر عن جميع أشكال الغطرسة والصلف والاعتداءات الإسرائيلية وتتستر وراء ذلك بادعاء سماحها بدخول المساعدات إلي أهل غزة!!!.. ما ينبغي علي أمريكا فعله هو أن تتعامل مع إسرائيل كدولة مثلها مثل سائر دول العالم بحيث يقتصر تأييدها لما تفعله علي معيار توافقه مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية.
** ادعاء إسرائيل أنها تمارس التطهير العرقي للفلسطينيين للحيلولة دون تعرض مواطنيها لمذبحة هولوكوست جديدة علي غرار ما تعرض له اليهود علي أيدي النازي قبل الحرب العالمية الثانية هو ادعاء مختلق وغير حقيقي يراد به خداع العالم لتبرير ما تفعله… أيضا ادعاء إسرائيل أنها تقوم بتأمين نفسها ضد تهديدات المنطقة المحيطة بها لا أساس له من الصحة… أنا لا أتصورتعرض إسرائيل لتهديدات أو هجمات أو اجتياح من جانب الأردن أو مصر أو سوريا أو حزب الله في لبنان أو العراق, إيران وحدها التي تمتلك قدرا من السلاح النووي لكنه لا يرقي إلي تهديد إسرائيل.. لعل الحقيقة أن إسرائيل وحدها دونا عن كل دول المنطقة هي التي تمثل تهديدا استراتيجيا وعسكريا لجيرانها.
*** هذا مضمون حوار في غاية الأهمية لشخصية لها ثقلها الفكري والسياسي بالرغم من احتمال جهل الكثيرين في بلادنا بها, وذلك هو السبب الذي دعاني لتوثيق ما قالته متحدية التيار السائد في الغرب والضالع في مغبة التزييف والتعتيم والتضليل..