ليس سرا أننا جميعا في هذا العالم المضطرب الأمواج, نحتاج لأنماط سلوك تمكنا من النجاة في وقت هو من أصعب الأوقات الاقتصادية التي يمر بها العالم, فلم يعد من المقبول أو من الممكن أن تظل القيم الاستهلاكية السائدة هي نفسها التي سبقت حلول هذه الأزمة التي لا يبدو لانفراجها علامة قريبة, هذا إن لم يجد جديد في عالم يبدو أنه فقد عقله ولا يكترث للخسائر التي يدفع ثمنها سكانه العاديون.
منذ فترة سبقت أزمة وباء الكورونا وبالتأكيد قبل الحرب الروسية الأوكرانية, ظهر اتجاه جديد يدعو لتقليص السلوكيات الاستهلاكية إلي أقل حد ممكن يؤدي لقضاء الحاجات الضرورية, تبني هذا التوجه شباب اعتبروا أن التسويق الذي يلح ليل نهار علي الاستهلاك, هو بالفعل يستهلك أعمارهم, وأنهم لا يرغبون في أن تفني زهرة شبابهم في العمل الذي لا يقدم لهم التحقق والسعادة والوفرة فقط لأجل سداد الفواتير وشراء احتياجات تبدو ظاهرا أساسية لكنها في تقييمهم ليست مهمة طالما لا يحتاجونها للنجاة في الحياة.
ثم جاءت أزمة الكورونا وكل ما تبعها من تحديد الإقامة الجبري لكل سكان العالم, لتمثل تحديا غير مسبوق في تاريخ البشرية, لكنه علمنا جميعا أنه يمكننا الاستغناء عن الكثير والكثير مما اعتقدنا أنه لا يمكن الاستغناء عنه, وأن الحياة ستسير ربما بسهولة وسلاسة أكبر, ولأن الدرس طال كثيرا وربما أن آثاره لا تزال باقية إلي حد ما, إلا أن أصحاب العقول اليقظة تعلموا الدرس, وكثير منهم لم يعد لأنماط الاستهلاك السفيهة نفسها, بل أن كثيرا من البشر حول العالم أعادوا تقييم احتياجاتهم وترتيب أولوياتهم في الحياة ومنها أولوية الإنفاق; لذا لم يكن غريبا أن يتنازل بعضهم عن وظائفهم الدائمة بمحض إرادتهم, وأن يغير البعض المسار المهني أو الدراسي, وهؤلاء هم أصحاب العقل والتفكر بالتأكيد.
وهناك شريحة أخري انتهزت كمون الوباء, لتعود أكثر شراهة في الإنفاق الاستهلاكي, تعويضا عن الفترة الطويلة القاحلة والمؤلمة من حظر الحركة المرتبطة بالوباء, وكذلك عن كل الخسارات الإنسانية القاسية, خاصة أن الأغلب لم ينتبهوا إلي التأثير العقلي والنفسي لهذا الوباء المخيف علي كل سكان العالم.
وكأن الكون أراد أن يجبرنا علي تعلم الدرس, بأن نتخلي عما هو ضروري حقيقة لبني البشر, فجاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتضع العالم في مأزق اقتصادي جديد, وتجبر الجميع علي تقليص نفقاتهم حتي أنها مست ضروريات الحياة.
يظل الحل هنا أمام مواجهة ظروف لا حيلة لنا فيها سواء من أوبئة أو حروب, أن نتخذ الموقف المناسب لجعل حياتنا أكثر تيسيرا, النجاة سبيلها الوحيد هو إدراك عما يمكننا التخلي, كي نستطيع تحقيق الوفرة فيما هو ضروري للبقاء, وحينها لن ننجو وحسب, وإنما سنكتشف معاني أكثر حقيقية للحياة.
هذا الكلام ليس فلسفيا طوباويا, بل واقعي للغاية, وليسأل كل منا نفسه: كم ينفق علي ملابس لا يستخدمها؟ علي مظاهر لا تضيف إلي روحه شيئا فقط تجلب له التقدير الاجتماعي القائم علي المظهر بهدف التعالي والمباهاة والمنافسة علي لا شيء! كم ننفق علي مباهج غير حقيقية التأثير علي علاقتنا بأنفسنا وبمن يهمنا أمرهم؟ وهذه ليست دعوة للتقشف بمعناه القاسي, علي العكس, هي دعوة للبحث عن المتع الحقيقية التي تضيف لحياتنا معني وقيمة, وتدفعنا إلي الأمام في طريق تطور إنساني حقيقي, لا يؤدي إلي تقهقر القيم الإنسانية التي سعت البشرية لتطويرها وبناء مجتمع عالمي أرقي بناء عليها, وهو بالمناسبة تحد شديد الصعوبة, فنحن في زمن يختلط فيه الحابل بالنابل, ويلتبس فيه الحق بالباطل, وأصعب ما يواجهه الإنسان في هذا العصر هو مواجهة نفسه والبقاء معها لخمس دقائق لا أكثر!
كيف يمكن للإنسان النجاة في هذا الزمن, نحن لا قدرة لدينا علي توقع ما هو مقبل, وللأسف فإن كل التوقعات خاصة فيما يخص الاقتصاد العالمي ليست مبهجة, الحل الوحيد هو في خوض تحدي البقاء بكل اليقين في الله وعدله ورحمته, وبالثقة في قدرة الإنسان علي البقاء ككائن متطور يعرف ما يفيده وما لا فائدة حقيقية له; هكذا فقط يتطور الإنسان وهكذا سننجو.