يبدو من المدهش في أيام كهذه أن نتحدث عن التسامح! لماذا؟ هل لأنه لا حاجة له؟ أم لأنه -التسامح- حاضر بالفعل؟
في الحقيقة فإن الإجابة هي الأصعب: نحن نعيش في عالم يعلن أنه يسعي للتسامح, في حين أنه يمارس الاغتيال لكل ما يتعلق به يوميا دون أدني رحمة أو شفقة.
التسامح.. يبدو مصطلحا غريبا حين يتبادر إلي ذهنك وأنت تخطو إلي معرض للتصوير, لكن هذا ما حدث معي وأنا أبدأ زيارتي للمعرض الدولي للتصوير- إكسبوجر الشارقة 2024, المعرض الذي أقام هذا العام دورته الثامنة, وبتنظيم من مكتب الإعلام الحكومي لإمارة الشارقة, حظي بمشاركة 400 مصور من كافة أنحاء العالم, حضر منهم للمشاركة في الفعاليات التي استمرت لأكثر من أسبوع, 150 مصورا تواجدوا منذ الصباح الباكر وحتي المساء, للتفاعل مع جمهور المعرض سواء من الزوار أو المتخصصين, فعلي مدار أيام المعرض استمرت المناقشات حول 2500 صورة قدمت عرضا عصريا ذا رؤية فنية للعالم الذي نحياه دون أن ندرك تفاصيله.
نعود إلي التسامح.. في الحقيقة هذا هو أول ما خطر في بالي, وأنا المنغمسة في أخبار الحروب والصراعات, والتحديات اليومية لمجتمعات تسعي للنجاة في عالم صعب, لكنني انتقلت إلي عالم آخر بمجرد أن خطوت إلي أرض إكسبو الشارقة فوجدت نفسي بين كل هؤلاء الفنانين الذين يستقبلون الزوار في ساحات عرض مبهرة, شعرت بأن التسامح ممكن في عالم يضج بالخلافات, ليس هذا فحسب, بل إنني تذكرت قوة الصورة, تلك التي تقف في الصف نفسه مع الكلمة لإظهار الحقيقة والرحمة والجمال, ولن أبالغ إن قلت بأن الصورة بالتأكيد هي الأقوي في عالم جعلته شركات التكنولوجيا منغمسا في الصورة بكل سهولة.. وتسلط.
ارتبكت قليلا وسألت نفسي إن كنت أبالغ في تقدير الأمر؟ وبعد عدة أيام تأكدت بما لا يجعل مجالا للشك بأنه لا مبالغة في الأمر, فبعدما تخلصت من نمط الحياة السريع الذي يحض علي النجاة اليومية, وتركت نفسي للانغماس تماما فيما يقدمه المعرض من متعة بصرية علي مساحات واسعة, مع تنوع ثقافي, وطرق عرض مبهرة, تأكدت بأن كل ما يحتاجه العالم ليس سوي مساحة كهذه للتواصل الإنساني, أن نترك لعيون هؤلاء الفنانين وكاميراتهم أن تنقل لنا ما منحه لنا الله من جمال في أنحاء الأرض, أن تنقل لنا بل وتذكرنا بمعني ودلالات التنوع الإنساني, أن ترصد عناصر التراث الإنساني ومدي تنوع الإرث الثقافي الضخم للبشرية, أن تكون عيون هؤلاء وكاميراتهم رسولا لمعاناة البشر, حينها يمكن للجميع أن يدرك الكثير والكثير مما هو غائب عنا: أن الجمال الذي منحه لنا الله تعالي مجاني تماما, وأن لدي كل جماعة في الأرض جمالياتها وأيضا حقها في البقاء والتعبير عن خصوصيتها, أن النجاة لهذه الأرض المتألمة جماعيا وأنه لا نجاة فردية حين تموت الطبيعة.
لمس قلبي للغاية صغار جاءوا من روضاتهم لمشاهدة المعرض, أما ما أبهجني حقا, هو حينما علمت من معلماتهم أن هؤلاء الصغار سيعودون إلي فصولهم ليعيدوا رسم ما شاهدوه من لوحات -يختارونها- من زاوية رؤيتهم لها, سيرسم هؤلاء الصغار العالم بعيونهم بعد الحصول علي جرعة من الجمال.. الفن.. الثقافة.. والأهم: فهم معني التنوع ما سيورثهم بالضرورة التسامح مع كل البشر وكل المنتج الإنساني, وهذا بالضبط ما تحتاجه البشرية لتنجو.
يقلقني للغاية فكرة دمار البشرية, وهذا ليس لأنني أشاهد الكثير من أفلام نهاية العالم الهوليودية, بل لأنني أشاهد نشرات الأخبار, أخاف علي أبنائي وعلي كل الأجيال الناشئة في عالم تنقل لهم الصورة مآس أكبر من قدرتهم علي التحمل, ثم.. أدركت أنني أنا -وبرغم حبي للجمال- هي من نست معني جماليات الصورة, وأنها لا تنقل الحرب وحسب وإنما الجمال أيضا.
أعدت اكتشاف روحي في أيام المعرض, وتذكرت مجددا أن في التسامح نجاة للجميع, بل إن التسامح هو نفسه مرسي لا بديل له إن أرادت البشرية أن تلحق بسفينة النجاة, فلا نجاة لفرد في عالم واسع, إما أن ننجو جميعا.. أو نفني.