ونحن ماضون في اتجاه الحوار الوطني يحدونا جميعا التفاؤل بأن المصريين قادرون علي المشاركة الجادة المخلصة في الحوار بما يعكس الطموحات الوطنية ويفرز ملامح تعبد الطريق نحو إدراك الجمهورية الجديدة… ومن خلال متابعتي لقدر ملحوظ مما يكتب وينشر في هذا الإطار أشعر بالتفاؤل أن ذلك الحوار سوف يسير علي نهج وطني يستهدف مصر ومصالح شعبها ومستقبلها وأمنها القومي ليفضي إلي تسطير وترسيخ ركائز الدولة الوطنية المدنية الحديثة.
اليوم أستهل إسهاماتي في ملف الحوار الوطني بالحديث عن الحياة الحزبية المصرية, وهو حديث أقله مشرق وأكثره مر… فالمتابع المنصف للنشاط الحزبي في مصر ودرجة إسهامه وتأثيره في الخريطة السياسية بالقطع سيعبر عن إحباطاته وانعدام رؤيته لدور هذا النشاط أو المأمول منه في المشاركة في العمل السياسي والممارسة الديموقراطية وإفراز الكوادر والقيادات وتفعيل آلية تدوير السلطة سلميا.
وإذا كنا علي أعتاب الحوار الوطني فنحن أمام تحد حقيقي أن نستخدم مبضع جراح لتشخيص واقعنا الحزبي وكشف عوراته وأسقامه ـ هذا إذا كنا نبتغي مصارحة شجاعة تفضي إلي حلول شافية ـ فلا يمكن إغفال واقع الخريطة الحزبية الذي أفرزه مبدأ فضفاض هو حرية تأسيس الأحزاب فكان أن اكتفت لجنة شئون الأحزاب بقبول كل إخطار يستوفي المعايير المحددة بالشكل التنظيمي للحزب وخلو توجهاته وأجندته السياسية من الانتماءات الدينية أو العنصرية أو التطرف, فكان أن أرسلت بناء علي ذلك حشدا من الأحزاب الوليدة وسمحت لها بالانضمام إلي الخريطة الحزبية حتي تجاوز أعضاؤها المائة حزب بما يعكس ظاهريا تنوعا ووفرة بينما الحقيقة المرة أن تلك الأحزاب اكتسبت عن جدارة واستحقاق صفة الأحزاب الكرتونية التي انحصرت في مجموعاتها التأسيسية وافتقرت إلي التواجد في الشارع المصري أو امتلاك الرؤي والبرامج أو اكتساب وتنمية العضوية أو المشاركة الفاعلة في العمل السياسي والانتخابات.
لجنة شئون الأحزاب ظلت قانعة بأنها أدت دورها علي أكمل وجه وحققت المبدأ الدستوري الذي يكفل حرية العمل الحزبي وأدركت وفرة غير مسبوقة في عدد الأحزاب, لكنها لم تفطن إلي أن واجبها أن تضع آلية دورية لتقييم أداء الأحزاب التي أجازت أوراقها من حيث توجهاتها السياسية ونشاطها ومشاركتها ومعدلات نمو عضوية المصريين فيها… لم تكترث اللجنة ببقاء الخريطة الحزبية مشرذمة مبعثرة لا تأثير لها, بينما كان في مقدورها إجراء المراجعة الدورية التي تربط استمرار تلك الأحزاب علي الساحة رهنا بمعدلات متزايدة لأرقام العضوية الحزبية وبتوجهات سياسية محددة واضحة تعكس الأفكار والرؤي والخطط والبرامج التي تتنافس في ظلها في الانتخابات وفي الشارع بين الجماهير..
إذ من خلال تلك المراجعة كان بمقدور اللجنة أن تشجع الأحزاب علي البحث عن بعضها البعض والانخراط في توجهات سياسية متكافئة وتدعيم أرقام العضوية فيما بينها إذا أرادت الاستمرار في الساحة الحزبية ـ وإلا فيتم شطبها وترحل ـ وكانت النتيجة الصحية الحيوية لذلك هي الضبط والتصحيح الدوري للخريطة الحزبية بحيث لا تبقي فيها إلا الأحزاب القوية ـ أو التكتلات السياسية العفية ـ التي تتراجع فيها الأسماء الطامعة إلي مجرد زعامة هشة وتعلو أهداف العمل الوطني وتسود المشاركة وقيادة الشارع المصري نحو الممارسة الديموقراطية السليمة.
تلك هي روشتة الإصلاح الحزبي التي أساهم بها في الحوار الوطني, فلست أزهو إطلاقا بأي حزب موجود علي الساحة منفردا ـ مهما كان يمتلك من تاريخ أو أسماء أو رصيد في الشارع ـ إنما أتوق إلي خريطة سياسية حقيقية تنحصر في خمسة تكتلات قوية تتبع عناصر الانتماء السياسي وتصطف فيها سائر الأحزاب: تكتلات أحزاب اليمين, ويمين الوسط, والوسط, ويسار الوسط, واليسار… هذه التكتلات تفصل بينها أجندات سياسية خاصة بكل منها وتتنافس فيما بينها حول تلك الأجندات التي تفرز البرامج التي تخاطب بها الشارع في الانتخابات, وعلي قدر اقتناع الشارع بها تكون فرصتها في الصعود إلي قمة السلطة أو تداولها سلميا.
وإن كنت أكتب هذا الكلام متزامنا مع الحوار الوطني, لست أعبر عنه لأول مرة, فقد سبق أن كتبت مثقلا بهذا الواقع مرارا, وأسجل هنا أنني تناولته في تواريخ 2017/10/29, 2018/1/28, 2018/2/25, 2018/4/22, 2018/5/27, 2018/10/14, 2019/2/3, 2019/12/29, 7/29/…2020 أي أن هذه المرة العاشرة التي أفتح فيها ملف الإصلاح الحزبي… كما لا يفوتني أن أسجل أن في كل مرة تناولت هذا الأمر حرصت علي الإشارة إلي ما سبق أن صرح به الرئيس السيسي في مايو 2017 في معرض حديثه لرؤساء تحرير الصحف القومية عندما قال: دعوت أكثر من مرة إلي اندماجات بين الأحزاب المتشابهة في برامجها وتوجهاتها السياسية من أجل خلق أكثر من حزب قوي لتسهم الخريطة الحزبية في تفريخ الكوادر المؤهلة لتداول السلطة, وأتمني أن نري الأحزاب ذات الأيديولوجيات المتشابهة تسعي للتنسيق فيما بينها للاندماج.
الواقع المؤسف يقول إن الأحزاب لم تبادر بعد لإدراك ذلك, فهل يستطيع الحوار الوطني إدراكه؟