عيد الصعود المجيد الذي فيه صعد المسيح إلي السماء في اليوم الأربعين من قيامته, فبعد أن وعد التلاميذ بأنهم سينالون قوة متي حل الروح القدس عليهم, وحينئذ يكونون له شهودا, يقول الكتاب ولما قال هذا, ارتفع وهم ينظرون وأخذته سحابة عن أعينهم.. (أع 1:9). والسؤال الآن هو:
هل ترك المسيح لهم يعتبر عيدا تعيد به الكنيسة كلها؟ والجواب علي ذلك أنه لم يتركهم..
لقد قال لهم ووعده حق وها أنا معكم كل الأيام وإلي انقضاء الدهر (متي 28: 20). وكان قد قال لهم قبلا حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي, فهناك أكون في وسطهم (متي 18:20). وهو قائم معنا في كل قداس علي المذبح, ويكفينا أن اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا (متي 1: 23).
إذن هو لم يفارق تلاميذه أنه معهم وإن كانوا لا يرونه بالعين الجسدية هو لم يتركهم, ولكنه رفعهم إلي مستوي فوق مستوي الحواس.
كان معهم بالجسد, يرونه بالجسد وهو بعد صعوده لايزال معهم, يرونه بالإيمان. والإيمان هو الإيقان بأمور لا تري (عب 11: 1). وقد قال السيد المسيح معاتبا لأنك رأيتني يا توما آمنت طوبي للذين آمنوا ولم يروا (يو 20: 29).
استمر السيد المسيح إذن معهم, ولكن ليس بالجسد, وكانوا قد وصلوا إلي درجة من الإيمان الناضج الذي يؤمن بوجود الرب معه دون أن يراه إنه هو الذي يقول عنه الذي سمعناه, الذي رأينا بعيوننا, الذي شاهدناه ولمسته أيدينا ولكن لا داعي الآن في نضوجهم إلي الاعتماد علي حواس الجسد رأيناه سمعناه لمسته أيدينا فهم في درجة إيمانية أعلي من الحواس, يحل المسيح بالإيمان في قلوبكم (أف 3: 17) دون أن يروه, وهم هياكل لله, وروح الله يسكن فيهم, أكو 3: 16 ويؤمنون بسكني الروح فيهم دون أن يروه ويؤمنون بالآب دون أن يروه المسيح إذن لم يفارقنا حينما صعد فصعوده مجرد صعود بالجسد. أما بلاهوته فهو معنا كل حين..
إن اللاهوت لا يصعد ولاينزل, فهو في كل مكان. هو علي الأرض, وهو في السماء, وفيما بين الأرض والسماء, ولا يخلو منه مكان. لذلك نصلي في القداس الغريغوري ونقول وعند صعودك إلي السماء جسديا.
الصعود معجزة ومجد
لا شك أن رؤية التلاميذ لمعلمهم العظيم وهو يصعد إلي السماء, أمر قد قوي إيمانهم جدا. فهو قد صعد بذاته ولم يخضع لشيء من قوانين الجاذبية الأرضية, وظل صاعدا إلي السماء..
إن قوانين الطبيعة قد وضعها الله. هي من صنعه لا يخضع هو لها, وإنما تخضع هي له..
ومع ذلك فقد صعد السيد المسيح بجسد ممجد علي شبه مجده سنقوم في اليوم الأخير, بجسد روحاني لا تثقله المادة, ولا تجذبه إلي أسفل ولا سلطان للأرض عليه. ليس فقط لأنه جسد روحاني, إنما هو بجسده مشي علي الماء دون أن يهبط إلي أسفل إذن معجزة الصعود هي معجزة تدل علي لاهوته بغير شك.
وهي من المعجزات الخاصة به وليست مجرد علاقة بينه وبين البشر هناك معجزات في حنو المسيح علي البشر, مثل شفائه للمرضي, وإقامته للموتي, ومثل إخراجه الشياطين من المصروعين بها. ولكن هناك معجزات أخري خاصة بالمسيح وحده مثل ميلاده البتولي ومثل التجلي وقيامته من الموت, ودخوله العلية والأبواب مغلقة وصعوده إلي السماء. وإن كان قد أعطت نعمة للآخرين بهذه المعجزات..
وفي معجزة الصعود ظهر مجده ولاهوته, وأن السماء هي حقا عرشه إن العثرات التي قامت وقت الصلب ردت عليها أمجاد القيامة والصعود.
إنه لم ينزل عن الصليب لما تحدوه, ولكنه بصعوده إلي السماء برهن علي أنه كان قادرا علي ذلك. وإنما بقي علي الصليب من أجل فدائنا.. وبقي بإرادته..
وفي صعوده تحقق قوله من عند الأب خرجت وأتيت إلي العالم. وأيضا أترك العالم وأذهب إلي الآب) (يو 16: 28).
هناك أمجاد متنوعة في حياة السيد المسيح:
مجد التواضع في مولده في مذودبقر, وفي إخلائه لذاته وتجسده ومجد البهاء في معجزة التجلي. ومجد الحب والبذل في صليبه كفارة عنا.
ومجد العظمة في صعوده وجلوسه عن يمين الآب.
وشعورنا بمجد المسيح له فوائد روحية كثيرة منها أن الصليب ليس مجرد ألم, بل يعقبه مجد..
من كان يظن في يوم الجمعة الكبيرة وسط يأس البعض, ووسط مظاهر الهوان والظلم, أن الأمور ستنتهي إلي أفراح القيامة وإلي أمجاد الصعود وكان الرب كان يعرف هذا جيدا, وقد أنبأ به. غير أن التلاميذ في عمق آلامهم نسوا. ورؤساء اليهود في عمق غرورهم لم يتصوروا هذه النهاية المجيدة..
إنه درس لكل إنسان روحي, كلما أحاطت به الآلام..
إن الصليب هو الطريق الطبيعي إلي المجد وإلي الحياة مع الله. لأننا إن كنا نتألم معه, فسوف نتمجد أيضا معه (رو 8: 17). ولأنه جعل الوصول إلي الملكوت من الباب الضيق والطريق الكرب (متي 7: 14). إن النظر إلي الأكاليل التي ننالها بواسطة الألم هو غايتنا.
بركة الصعود
وفي عيد الصعود, علينا أن نتذكر أن الصعود كان عمل محبة:
وكان الرب يقول لتلاميذه: أنتم تريدون أن تكونوا معي وحسنا تريدون وستكونون كذلك. ولكن ليس هنا بالجسد. ستكونون معي فوق, في الفردوس كما وعدت اللص اليمين, (لو 23: 43). وأيضا في أورشليم السمائية التي هي مسكن الله مع الناس (رؤ 21: 3). لذلك خير لكم إني أنطلق..
أنا ماضي لأعد لكم مكانا. وإن مضيت وأعددت لكم مكانا آتي أيضا وأخلكم إلي حتي حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضا (يو 14: 2, 3) وهذا ما ذكره الرب أيضا في مناجاته للآب حيث قال أريد أن هؤلاء أيضا ما قاله القديس بولس الرسول وتكون في كل حين مع الرب.. نعم أن الرب يعني تلاميذه بوجوده معهم, ووجودهم معه. ولكن..
أنتم سترتفعون كما أرتفع ستصعدون إلي فوق, في مستوي أعلي من مستوي التراب والجسد الترابي.. وأنا إن أرتفعت عن الأرض, سأجذب إلي الجميع (يو 12: 32).
أتراكم تحبون التراب إذن؟ وتحبون الجسد الترابي؟! ما أجمل أن ترتفعوا من هذا المستوي, لكي تلبسوا الجسد النوراني الروحاني, الجسد الممجد عديم الكساد (1 كو 15: 42 ـ 45) وبهذا الجسد الذي تنالونه في القيامة يمكن أن تصعدوا معي إلي فوق, حينما يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون مختاريه من أقصاء السموات إلي أقصائها (متي 34: 31) حيئنذ يضييء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم (متي 13: 43).
والطريق إلي هذا الصعود, أوله هو الموت أتراكم تخافون الموت؟ وهل يعز عليكم خلع هذا الجسد الذي هو رفيق العمر كله؟
لا تخشوا الموت. فقد مات المسيح أيضا, وبموته داس الموت. وبقيامته منح طبيعتنا النصرة علي الموت, فأصبح الموت مجرد انتقال, مجرد جسم يقود إلي الحياة الأخري, مجرد خطوة ضرورية للوصول إلي الصعود.
فلا تخافوا خلع هذا الجسد. فهو لابد سيقوم ويتحد بأرواحكم مرة أخري سيقوم في حالة أفضل, في عدم فساد, في حالة تمكنه من الصعود, كما أصعد أنا الآن, ولا جاذبية أرضية فيما بعد. ولا يعز عليكم خلع الجسد لأن لحما ودما لا يقدران أن يرثا ملكوت الله (أكو 15: 50) إذن إلي الجسد الروحاني, الذي سيصعد.