أول شيء نتذكره في ميلاد الرب هو عمق محبته للناس.
فمن أجل محبته لهم سعي لخلاصهم. ومن أجل محبته لهم أخلي ذاته, وأخذ شكل العبد, ونزل من السماء, وتجسد وصار في الهيئة كإنسان في 2: 7, 8.
إن التجسد والفداء, أساسهما محبة الله للناس.
فهو من أجل محبته لنا, جاء إلينا, ومن أجل محبته لنا, مات عنا. لهذا يقول الكتاب هكذا أحب الله العالم, حتي بذل ابنه الوحيد… (يو 3:16). انظروا ماذا يقول هكذا أحب… حتي بذل. نحن إذن في تجسده, نذكر محبته التي دفعته إلي التجسد. واعترافا منا بهذه المحبة, نتغني بها في بدء كل يوم, إذ نقول للرب في صلاة باكر أتيت إلي العالم بمحبتك للبشر, وكل الخليقة تهللت بمجيئك.
قبل ميلاد السيد المسيح, كانت هناك خصومة بين الله والناس, فجاء المسيح لكي يصالحنا مع الله, أو جاء لكي نصطلح معه هو, قبل مجيئه كانت فيها شبه قطعية بين السمائيين والارضيين: لا رؤي, ولا أحلام مقدسة, ولا أنبياء, ولا كلام من الله للناس, ولا ظهورات مقدسة… ولا كلام من الله للناس, ولا ظهورات مقدسة… ولا أية صلة واضحة…!! كانت الأرض بعيدة عن السماء طوال تلك الفترة.
كانت خطايا الناس كليالي الشتاء: باردة ومظلمة وطويلة.
وكانت تحجب وجه اللله عنهم, وكانت الخصومة بينهم وبين الله يمثلها في الهيكل الحاجز المتوسط الذي لا يستطيع أحد من الشعب أن يجتازه إلي قدس الأقداس… وزادت خطايا الناس, واحتدم غضب الله عليهم واستمرت القطيعة. ولم يحاول البشر أن يصطلحوا مع الله, ثم جاء السيد المسيح, فأقام صلحا بين السماء والأرض, وأرجع الصلة بينهما. وبدأت تباشير الصلح تظهر. ورجعت العلاقات كما كانت من قبل وأكثر…
ولكي أوضح الأمر لكم أقول: تصوروا أن دولتين متخاصمتين, قد رجع الصلح بينهما, فماذا تكون النتيجة: طبعا ترجع العلاقات كما كانت: يعود التمثيل السياسي بينهما, وإرسال السفراء والقناصل.. وفي ظل المودة الجديدة تبرم اتفاقيات اقتصادية, ثقافية, عسكرية…
المهم أنه توجد علاقة وصلة. كذلك لنفرض أن شخصين متخاصمين قد أصطلحا, في ظل الصلح نري العلاقات قد بدأت ترجع, تعود التحيات والابتسامات والزيارات والأحاديث, وتعود المودة.. هكذا حدث بين السماء والأرض. وبدأت تباشير الصلح تظهر بمجيء المسيح إلي الأرض أو في خطوات وممهدات مجيئه.
تباشير الصلح
وأول شيء شاهدناه من تباشير هذا الصلح هو كثرة نزول الملائكة إلي الأرض. في مجيء المسيح وقبيل مجيئه ازداد ظهور الملائكة بشكل واضح. ظهورات متوالية, فردية وجماعية, كسفراء للرب. تهلل الملائكة بفرح عظيم, وأرادوا أن يشتركوا في هذا الحدث العجيب وهو تجسد الرب وميلاده فظهر ملاك يبشر زكريا بولادة يوحنا (لو 1: 11), وملاك يبشر العذراء بولادة المسيح (لو 1:26), وملاك ظهر ليوسف في حلم يخبره بحبل العذراء (متي 1: 20). وملاك ظهر للرعاة يبشرهم بالميلاد الإلهي (لو 2: 9). وملاك ظهر ليوسف في حلم وأمره أن يهرب بالطفل يسوع وأمه إلي مصر (متي 2: 13) بالإضافة إلي هذا جمهور الملائكة الذين ظهروا مسبحين الله وقائلين المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام, وبالناس المسرة (لو 12: 33 و 14).
أن ظهور الملائكة بهذه الكثرة, يدل علي أن العلاقات بدأت ترجع بين السماء والأرض, وتدل علي فرح الملائكة بالخلاص المزمع, واشتراكهم مع الأرضيين في هذا الفرح.
وظهور الملائكة في فترة الميلاد كان مجرد طلائع للملائكة الذين ملأوا العهد الجديد… ملائكة كانوا يخدمون الرب علي جبل التجربة (مر 1: 13), وملائكة القيامة الذين ظهروا للنسوة, ومثل الملاكين اللذين طمأنا الرسل وقت صعود الرب (أع 1 : 10)… كان هؤلاء جميعا طلائع نعرف بهم الملائكة غير المرئيين المحيطين بنا الآن الذين قال عنهم القديس بولس الرسول أليس جميعهم أرواحا خادمة, مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 14).
ولم تكتف السماء في صلحها مع الأرض بظهور الملائكة, بل امتدت إلي الأحلام المقدسة بما فيها من توجيه وإعلان.
اجتمع الأمران معا بالنسبة ليوسف الصديق: ملاك ظهر له في حلم يخبره بالحبل المقدس (متي 1: 20), وملاك ظهر له في حلم يأمره بالذهاب إلي مصر (متي 2: 13), ثم بعد ذلك ظهر له ملاك في حلم في أرض مصر يأمره أن يرجع إلي بلده لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي, (متي 2:20). ولما خاف أن يذهب إلي اليهودية بسبب أن أرخيلاوس كان يملك هناك أوحي اليه حلم أن ينصرف إلي نواحي الجليل, فذهب وسكن في الناصرة (متي 2: 22).
هؤلاء الملائكة الذين ظهروا ليوسف الصديق في الأحلام, يعطوننا فكرة عن سمو مكانة العذراء. فالعذراء, ظهر لها الملاك عيانا في صحوها, رأته بعينيها وسمعته بأذنيها, أما يوسف الصديق فرأي وسمع في الأحلام. إن هذا يذكرنا بالفرق الكبير بين مركز موسي النبي ومركز هارون ومريم, اللذين وبخهما الرب عندما تقولا علي موسي, فقال لهما إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له, في الحلم أكمله.
وأما عبدي موسي فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي.. فما إلي فم وعيانا أتكلم معه (عدد 12: 6 ـ 8) لقد كلم الملائكة يوسف الصديق عن طريق الاحلام.
وهكذا حدث أيضا مع المجوس بعد أن رأوا الطفل يسوع, وقدموا له هداياهم أوحي اليهم في حلم أن لا يرجعوا إلي هيرودس فانصرفوا إلي كورتهم (متي 2: 12).
وحديث المجوس يذكرنا بظهورات مقدسة أخري صاحبت حدث الميلاد, ونقصد أولا النجم الذي ظهر للمجوس وأرشدهم إلي مكان المذود المقدس, (متي 2: 1 ـ 12). لم يكن ذلك النجم نجما عاديا ـ كما شرح القديس يوحنا ذهبي الفم ـ بل كان قوة إلهية أرشدتهم. ذلك أن مساره كان غير عادي, من الشرق إلي الغرب. وكان يظهر حينا, ويختفي حينا آخر, ويقف حينا ثالث, كذلك ارشاده لمكان المذود معناه أنه هبط من علوه هبوطا يوضح المكان, وبخاصة لأن الكتاب يقول عنه أنه وقف حيث كان الصبي. هذا النجم كان ظهورا مقدسا ولم يكن نجما كباقي النجوم..
وفي صلح السماء مع الأرض الذي جلبته بركة الميلاد لم تقتصر الصلة علي ظهور الملائكة والأحلام المقدسة والظهورات المقدسة, بل أيضا رجعت روح النبوة مرة أخري, ورجع عمل الروح القدس في الناس وامتلاؤهم منه.
نقرأ عن يوحنا المعمدان في بشارة الملاك عنه أنه من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس (لو 1: 15).
ونقرأ في بشارة الملاك للعذراء قوله لها الروح القدس يحل عليك, وقوة العلي تظللك, (لو 1: 35). ونقرأ في زيارة العذراء مريم للقديسة أليصابات أنه لما سمعت أليصابات سلام مريم, ارتكض الجنين في بطنها, وأمتلأت اليصابات من الروح القدس (لو 1: 41). ونقرأ عن زكريا الكاهن ـ بعد انقضاء فترة صمته ـ وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس وتنبأ قائلا… (لو 1: 67) نقرأ أيضا عن سمعان الشيخ أنه كان رجلا بارا والروح القدس كان عليه, وكان قد أوحي اليه بالروح القدس.. (لو 2: 25, 26).
عجيب جدا هذا العمل الواسع للروح القدس في الناس في تلك الفترة المقدسة.. وعجيب هذا الامتلاء من الروح القدس وهذا الحلول, وهذا التنبوء أيضا.. لقد تنبأ زكريا الكاهن, وتنبأت امرأته أليصابات, وتنبأ سمعان الشيخ, وتنبأت حنة بنت فنوئيل (لو 2: 36).
وبدا أن الله رجع يتكلم في أفواه الأنبياء… وكل ذلك كان من بوادر انتهاء الخصومة بميلاد المسيح, أو كانت هذه هي تباشير الصلح الذي تم علي الصليب.
وكان من تباشير الصلح أيضا رجوع المعجزات.
والمعجزات دليل عمل يد الله مع الناس.. كان انفتاح رحم أليصابات العاقر هو المعجزة الأولي. وكان صمت زكريا الكاهن ثم انفتاح فمه بعد تسعة أشهر معجزتين آخريين… وكانت معجزة المعجزات هي ولادة السيد المسيح من عذراء. وكان ارتكاض الجنين بابتهاج في بطن أليصابات تحية للجنين الإله الذي في بطن العذراء هو معجزة أخري.
ولا نستطيع أن نحصي المعجزات التي رافقت ميلاد المسيح وطفولته. أما معجزاته في أرض مصر, فلعل أبرزها هو ما يشير إليه إشعياء النبي قائلا: هوذا الرب راكب علي سحابة سريعة وقادم إلي مصر. فترتجف أوثان مصر من وجهه, ويذوب قلب مصر داخلها (أش 19:1).
وفعلا سقطت أوثان مصر بدخول الرب إليها.
كل هذا يدل علي أن يد الرب قد بدأت تعمل, وأن ميلاد المسيح كان مقدمة لصلح السماء مع الأرض, الصلح الذي قلنا أن أولي تباشيره كان ظهور الملائكة, ويحسن أن نقف وقفة تأمل بسيطة عند ظهورات الملائكة هذه..