أهم ما يميز الإنسان الناجح أن يكون جادا في حياته.
نقول هذا عن الحياة العادية في العالم, كالطالب في مذاكرته, والعامل في عمله, كما نقوله أيضا في الحياة الروحية, وعلاقة الانسان بالله.
الانسان الجاد تعطيه الجدية حرارة في العمل, وحرارة أيضا في العزيمة والنية, تدفعه باستمرار إلي قدام.
وهكذا بالجدية, لا يتواني ولا يتردد ولا يتكاسل, بل يظل سائرا في طريقه بكل قوة, هادفا إلي الكمال وإلي المثالية, إلي أن يصل إلي غايته, ويحقق غرضه بنجاح.
بالجدية لا تمشي فقط في طريقك, وإنما تمشي بنشاط, وبالسرعة الحكيمة الممكنة ولا تسريح حتي تصل.
والقديسون صاروا قديسين لأنهم سلكوا في الحياة الروحية بجدية..
القديس الأنبا أنطونيوس الكبير, سمع آية من الانجيل في الكنيسة, لعل مئات غيره قد سمعوها معه, ولكن أحدا منهم لما يأخذها بالجدية التي أخذها بها الأنبا أنطونيوس. وهكذا استطاعت هذه الآية الواحدة أن تغير حياته كلها, وأن توجد في الكنيسة طغمة من الملائكة الأرضيين, باعوا كل أموالهم, وأعطوها للفقراء, وتبعوا الرب في حياة زاهدة, حسب قول الإنجيل.
ويحكي أن راهبا جديدا تتلمذ علي شيخ, فجلس معه هذا الشيخ الروحاني وأعطاه الدرس الأول في الرهبنة, وطلب إليه أن يمر عليه ليأخذ الدرس الثاني, ولكن شهورا طويلة مرت دون أن يرجع إليه هذا الراهب المبتدئ. فلما التقي به الشيخ أخيرا, قال له لماذا لم تحضر يا ابني, لتأخذ الدرس الثاني؟ فأجابه الراهب صدقني يا أبي منذ أن سمعت نصائحك الأولي, وأنا أدرب نفسي عليها بكل قوة. وللآن لم أتقنها بعد, حتي آتي لأخذ الدرس الثاني.
لقد أخذ النصائح بجدية, ليعمل بها, وليس لمجرد السماع وزيادة المعلومات.
لأن كثيرين يأتون إلي الآباء طالبين كلمة منفعة, ويسمعون, ولكنهم لا يكونون جادين في التنفيذ, ويطلبون كلمات منفعة جديدة, ولا ينفذون شيئا.
ويصير الأمر بالنسبة إليهم, كما لو كان شهوة للمعرفة, وليس جدية في الاستفادة وفي التنفيذ والتطبيق!.
كثيرون يدخلون الحياة الرهبانية ولكن لا ينجح إلا الجادون منهم وقد سجل لنا التاريخ في بستان الرهبان وفي سير القديسين, أخبار هؤلاء الذين سلكوا في الطريق بجدية وقدموا في حياتهم مثالية عجيبة صارت دروسا لكل الأجيال المقبلة..
ونفس الوضع نقوله بالنسبة إلي قصص التوبة في حياة القديسين.
نسمع عن توبة القديس أوغسطينوس وعن توبة القديس موسي الأسود, والقديسة مريم القبطية والقديسة بيلاجية وغيرهم. ونري أن روعة تلك التوبة تتركز في أنها كانت توبة جادة, من حيث إنها كانت تغييرا كاملا للحياة, ونقطة تحول في الاتجاه إلي الله, وترك للخطية إلي غير رجعة طول الحياة.
نقول هذا لأن كثيرين يقولون إنهم تابوا, وبسبب عدم جديتهم, سرعان ما يرجعون إلي الخطية مرة أخري!
والخطايا التي اعترفوا بها, يرجعون إلي اقترافها. ويظلون في تردد شديد بين طريق الله وطريق العالم, يرتفعون ويهبطون, ويغتسلون ويتسخون, ويبكون مرة علي خطاياهم, وفي مرة أخري يجدون شوقا إلي ممارستها.
ويبدو تماما من سلوكهم أن توبتهم ليست جدية علي الإطلاق, ولو كانت جدية مارجعوا مطلقا إلي خطاياهم الأولي.
من أمثلة الجدية أيضا موقف الكثيرين من موضوع النذور
يقع انسان في ضيقة, وينذر نذرا معينا إن أنقذه الرب منها. ثم ينقذه الرب, ولكن لا يوفي بنذره. يتأخر في الوفاء به احيانا, وأحيانا أخري يعيد التفكير في النذر, وفي قدرته ويسأل هل يمكنه أن يغير نذره إلي شيء آخر ويبدأ في أن يساوم الله, ويساوم رجال الدين في كيفية تنفيذ النذر ويبدو من كل هذا أنه لم يكن جادا في نذره, وما أجمل قول الكتاب خير لك أن لا تنذر, من أن تنذر ولا تفي [جا 5: 5].
الحياة مع الله ينبغي أن تتسم بالجدية.. ومن مظاهر الجدية الطاعة.
ولعل من مظاهر هذه الطاعة موقف إبراهيم أبي الأنبياء من جهة تقديم ابنه الحبيب للرب, في غير تردد وفي غير مساومة. وكذلك موقف يفتاح في تقديم ابنته..
كثيرون يعدون الرب إن وهبهم أبناء, أن يقدموهم للرب, كما فعلت حنة أم صموئيل ونفذن, ولكنهم عندمات يكبر الأولاد, يرجعون في وعودهم!.
ما أخطر أن تتعهد أمام الله, ثم لا تفي بالعهد..!
لهذا أرجع إلي نفسك. وتذكر جميع العهود التي بينك وبين الله. انظر أي شيء فيها لم تنفذه بعد.. علي الأقل العهود التي تمت أثناء المعمودية, والتهود التي تتعهد بها قبل التناول, وفي كل مرة تتقدم فيها إلي سر التوبة.
الانسان الجاد لا يعرج بين الفرقتين.
لا يمشي مع المنل العامي القائل ساعة لقلبك, وساعة لربك!! لا يتردد مطلقا لا يتساهل في حقوق الرب.
لا يتفاوض مع الخطية ولا يتراخي مع أفكارها وشهواتها.. ولا يتنازل عن مستواه الروحي, ولا يحاول أن يلتمس لنفسه الأعذار في خطأ معين, ولا يلجأ مطلقا إلي أسلوب التبريرات.
الانسان الجاد يتميز بالحزم.
الحزم الذي به بيت في الأمور, ولا يتركها معلقة بين الايجابية والسلبية ولا يؤجل مطلقا فعل الخير, لأن التأجيل لا يتفق مع الجدية مادام الموعد مناسبا.
والانسان الجاد لا يتعلق بالشكليات, إنما يهمه جوهر الأمور وعمقها.
كثيرون يصلون ويصومون ويقرأون الكتاب المقدس, ويواظبون علي الاجتماعات الدينية, ولكنهم مع كل ذلك غير جادين في حياتهم الروحية, وعلاقتهم مع الله هي مجرد مظاهر وشكليات!!
لم يدخلوا بعد إلي العمق, ولم يكونوا بعد علاقة حقيقة مع الله, لأنهم غير جادين في تدينهم.
لهم صورة التقوي وليس لهم قوتها ولا فاعليتها في حياتهم.. كالذين يصومون, ويبحثون عن طرق خلفية يتخلصون بها من الصوم, أو يأخذون من الصوم مظهره, ويتركون أعماقه وفوائده الروحية وجوهره.
البقية العدد المقبل