كتبت فى السابق مقالا عن معنى “المكانة الاجتماعية Social Status”، ذلك المفهوم الذى يعنى منزلة أو مركز اجتماعى معين يحظى شاغله بالتقدير والاحترام، سواء داخل المجتمع الصغير كالأسرة أو العائلة، أو فى المجال الوظيفى أو المهنى، أو على مستويات اجتماعية أكبر. أما عن خصائص المكانة الاجتماعية، فهى تتضمن: أولا: أن المكانة لا توجد خارج نسق علاقات اجتماعية أو وظيفية فمكانة الرئيس لا تتحقق بدون وجود مرؤسين، ومكانة الزوج أو الزوجة لا تكون بدون العلاقة الزواجية؛ ثانيا: المكانة أن تكون موروثة كالانتساب إلى عائلة ذات مكانة متوارثة، أو أن تكون مكتسبة بمعنى أن يكتسبها الفرد بجهده كأن يحقق مكانة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو علمية، أو من خلال أى شكل من أشكال رأس المال الاجتماعى، إلخ؛ ثالثا: المكانة نسبية بسبب إرتباطها بأنساق القيم المتعددة والتى تختلف من جماعة لأخرى أو من مجتمع لآخر، فزعيم القبيلة التقليدى لا تكون له المكانة ذاتها فى عالم المدن الحديث، كما أنها متغيرة بفعل التحولات الاجتماعية والتاريخية، فمكانة المرأة اختلفت من زمن الحريم إلى زمن أصبحت تشغل فيه أعلى المناصب؛ وأخيرا فإن المكانة الاجتماعية لا تكمن فى الأشخاص، ولكنها مرتبة أو منزلة يحظون بها أو يصلون إليها.
وبدون الاسهاب فى تعريف هذا المفهوم، حيث أن الغرض من هذا المقال هو الاشارة إلى السبل التى يجرى من خلالها اكتساب المكانة. عادة ما تكون عمليات اكتساب المكانة مرتبطة بالمقومات التى يمتلكها الشخص ليكون مستحقا لهذه المكانة فى سياق معين، وقد لا يرتبط الأمر بالوضع الطبقى أو الثراء أو حتى السلطة، وإن كانت هذه مقومات أساسية لتشكيل المكانة، فالمعلم أو رجل الدين قد يكون فقيرا، ولكنه يحظى، أو كان يحظى، فى سياقات معينة بمكانة مرموقة. وكذلك يجب التمييز أحيانا بين المركز والمكانة، فقد يكون شغل مركز معين، كموقع سلطة، هو الذى يعطى الشخص مكانته وقيمته، وفى هذه الحالة قد يفقد مكانته إذا ما فقد موقعه أو مركزه، ولكن فى حالات أخرى، عندما ترتبط المكانة بقيمة الشخص ذاته، مثلا أن يتم الاعتراف بمكانة شخص كأستاذ، صحيح أن الوصول إلى هذا المركز يتطلب الحصول على الدرجات العلمية التى تؤهل الشخص لهذه الدرجة العلمية، ولكن مكانته وقيمته قد تحققها شروط أخرى غير مركزه مثل انتاجه الانتاج الفكرى أو العلمى، وهو أمور قد تحسب للشخص حتى لو ترك مركزه، حيث تبقى استاذيته معترفا بها.
وقد تكون أنماط المكانة الاجتماعية مستقرة فى نظام اجتماعى معين انطلاقا من تراتبيات معترف بها مثلا بين من يملك ومن لا يملك، وبين الكبار والصغار، أو بين الرجال والنساء. وقد يتم الحفاظ على هذه الأنماط التراتبية بوسائل سلمية تأخذ صبغةالاحترام والتقدير، وفى بعض الأحيان من خلال وسائل قسريةكالسيطرة والإجبار. ولأن العلاقات تتغير بفعل الزمان والمكان، فقد يخسر البعض مكانته ويدخل فى مأزق اجتماعى أو نفسى إذا أخفق فى التكيف مع الأوضاع المتغيرة. ولكن عادة ما تكون الخسائر والصدمات محدودة، إذا ما حدث التحول فى نظام العلاقات بشكل هادئ وموضوعى، وبما يحفظ الكرامة الإنسانية. أما إذا حدثت تحولات عشوائية وغير منظمة، فإن ما يحدث فى الغالب هو أن يختل النظام الاجتماعى ويهتز نظام القيم، وبالتبعية تختل المعايير التى يتم بموجبها الاعتراف بالمكانة الاجتماعية، وتتبدل السبل التى يمكن من خلالها الوصول إلى المواقع أو المراكز التى تحقق المكانة. ومن المعروف أن المكانة فى الأنساق المختلة تستقوى بالسلطة (أيا كان شكلها) و الثروة (أيا كان مصدرها).
ولعل الأمر الأكثر خطورة عندما يستشرى الخلل يتمثل فى حدوث شروخ عميقة بين المكانة والكرامة الإنسانية، لأن تأسيس المكانة أو المنزلة أو الهيبة إنطلاقا من السلطة والثروة بالأساس، يعنى بالمقابل أن إظهار هذا المكانة يرتبط بممارسات تنال من الكرامة مثل الاستعلاء أو التفاخر وحتى الإهانة والإيذاء على طريقة العبارة الدارجة “إنت مش عارف أنا مين؟”. وبالمقابل فإن الفئات الأوسع التى تخسر كرامتها تسعى من ناحيتها إلى إشباع الرغبة فى الإحساس بالمكانة والهيبة، وذلك من خلال الاستعلاء والاستقواء على أطراف أضعف. هكذا تتحقق المكانة الذكورية من خلال العنف الأسرى، وتتحقق الهيبة والمكانة فى الشارع بالإيذاء المجانى والتحرش وخرق القانون. إن هذه المظاهر، والتى تبدو خروقات من منظور عقلانية النظم الاجتماعية، هى فى واقع الأمر سبل مهينة لاشباع الرغبة فى الاحساس بالمكانة فى سياقات اجتماعية أصابها الخلل. إن سائق الميكروباص الذى يتعمد تعطيل الشارع، هو فى حقيقة الأمر يشبع رغبة فى إظهار القدرة والهيبة، وبالمثل فإن المتدين الذى يشهر سلاح الحلال والحرام، ليس سوى شخص بائس يستقوى بالدين من أجل تعويض كرامة منتهكة. والحياة اليومية حافلة بمثل هذه الممارسات.
وأنهى المقال بمشهد يجسد هذه حالة الخلل الاجتماعى والقيمىمن فيلم “إشارة مرور” للمخرج خير بشارة، مشهد للفنان عماد رشاد مع صديقته التى تسأله عن الحالة التى هو عليها، فيقول: “واحد ضربنى على قفايا.. كده من غير أى سبب.. واحد فى الشارع عمرى ما شفته ولا شافنى .. ما فيش بينى وبينه أى حاجة.. راكب عجلة ضربنى على قفايا وجرى.. كأنه ما عملش أى حاجة.. ده حتى ما بصش وراه.. تصورى أنا مشفتش وشه، ما أعرفش حتى شكله إيه.. واحد يضرب التانى من غير أى سبب لا عداوة ولا كره ولا علاقة من أى نوع.. إحساس فظيع بالمهانة”.