للفوتوغرافيا تاريخ يبدأ بقصة يرويها الكثير من الباحثين وهي قصة “الحجرة المظلمة” التى تسجل لحظة اكتشاف الرسام “جوفاني باتيستا ديللا”لانعكاسات الضوء داخل حجرته المظلمة لترسم لوحة مناظرة للحديقة فى الخارج، وكان ذلك فى فلورنسا عام 1558، وتواصلت الجهود على مدار العقود التالية حتى حظى العالم بذلك الاكتشاف الرائع فى منتصف القرن التاسع عشر: الكاميرا. وهكذا أصبح بمقدرونا امتلاك ومشاهدة صورا تحاكي الأشياء والأشخاص، صورا ثابتة ومتحركة ورقمية. وسريعا أضحت الصورة أداة واسعة الانتشار ومتعددة الاستخدامات في التوثيق والاكتشاف والتواصل والرقابة والخداع. وبقوة دخلت الصورة مختلف المجالات الشخصية والعائلية والقانونية والعلمية والفنية. وقد عرفت مصر التصوير الضوئى، وفق ملف عن فن التصوير بمجلة الهلال، مبكرا بعد اختراعه بسنوات، أي في حوالي منتصف القرن التاسع عشر، واقتصرت ممارسته عندئذ على التقاط صور شخصية (بورتريه) للحكام وكبار رجال الدولة بوساطة أولئك المصورين الأوروبيين الذين كانوا يجوبون الآفاق للارتزاق من هذا الفن الجديد. ولعل أول من التقطت له صورة من هذا القبيل كان عباس باشا الأول الذي حكم مصر من عام 1848 إلى عام 1854.
وبالطبع فإن الحديث عن الفوتوغرافيا له أبعاده التاريخية والعلمية والتقنية والثقافية والاقتصادية، ولكن هذا المقال مقتصر على عرض بعض الأفكار حولعلاقة الصورة، الضوئية والرقمية، بالذاكرة وتشكيل الذات والهوية. فمن ناحية أولى، لا شك أن علاقة الصورة بالذاكرة علاقة وثيقة، وكما يقول رولان بارت في كتابه “الغرفة المضيئة: تأملات في الفوتوغرافيا”: “أول شيء وجدته هو أن ما تنسخه الصورة الفوتوغرافية إلى ما لا نهاية لم يحدث إلا مرة واحدة: إنها تكرر ميكانيكاً ما لا يمكن أن يتكرر وجودياً”. إنها تشبه اللغة وتختلف عنها فى الوقت ذاته، فاللغة تعبر (كما فى تسجيل اليوميات)، ولكن الصورة تنسخ وتعبر بقدر ما تُفاجئ. وثمة إجماع مفاده أن الصور الفتوغرافية، إلى جانب الاستخدامات العلمية والمؤسسية، كانت وسيلة شخصية وعائلية لتوثيق المراحل العمرية والمناسبات، فقد كانت بمثابة الهوية البصرية للعمر والقرابة. وهكذا أصبحت الصورة الفوتوغرافية حائط الذاكرة الشخصية والعائلية بامتياز، فمن خلالها نستعيد ذكريات طفولتنا، حتى لحظات ما قبل تشكل الذاكرة، وتذكرنا بمن رحلوا عن عالمنا، حتى أولئك الذين رحلوا قبل أن نوُلد. ولو أن تاريخ الصورةالفوتوغرافية كان قد بدأ من آلاف التاريخ لتغيرت نظرتنا للتاريخ ولأنفسنا.
وبمرور الزمن حدثت تحولات في عالم الصورة بظهور الصور المتحركة ومن بعدها الصور الرقمية، وهي تحولات كان له أثر على علاقة الصورة بالذاكرة. يقول أحد الباحثين: “تكتسب الصور الفوتوغرافية قيمة باعتبارها “لحظات”، بينما تفقد قيمتها كتذكارات”. وهذا ما نشهده الآن، فى وسائل التواصل الاجتماعي، فمع تدفق الصور تفقد قيمتها التذكارية وتصبح مجرد متعة لحظية، بما في ذلك تلك التى تسجل لحظات هامة من المفترض أن يكون لها قيمة تذكارية فى المستقبل. ومع ذلك، وعلى سبيل المفارقة، ففى حين كان من السهل التخلص من صور الذكريات التقليدية بإتلافها أو قص أجزاء منها، إلا أن صور اللحظات الرقمية قد تكون أكثر ديمومة إذا تم تداولها فى دوائر أخرىأو دخولها أرشيفات العالم الافتراضي، وبهذا تصبح خارج سيطرة أصحابها.
وربما يكون السبب في اختلاف الصور الرقمية بوصفها أداة “تسجيل لحظات” وليس “حفظ ذكريات”، راجع لكونها أداة تواصل بالأساس ، فالأجيال الأصغر تتواصل من خلال الصور أكثر من التواصل اللغوي، كما أن الصورة باتت فردية، أو ضمن إطار الأقران، مع تراجع الصورة العائلية (إلا فى بعضالمناسبات).
وعلاوة على ذلك فإن الصور الرقمية لم تعد نسخا لواقع، بل أكثر من ذلك فهي تبدو وكأنها الواقع ذاته، فقد أصبح الاهتمام بأخذ صورة فى حدث ما أكثر من الاهتمام بالحدث ذاته، فالصورة تواصلية وتسويقية وتبادلية.فلم يعد للمحتوى قيمة، بل إن الصورة هي المحتوى أو هى التى توحي بأن للمحتوى قيمة.
يرتبط هذا التحول من صورة الذكريات التقليدية إلى الصورة اللحظات الرقميةب مسألة الهوية. فلا شك أن هناك أمر ثابت فى علاقة الصورة التقليدية بالهوية الشخصية، وهو استخدامها فى الوثائق الرسمية (بطاقة شخصية، رخصة قيادة، جواز سفر) وربما تكون هذه الاستخدامات هي الوحيدة التى مازالتالباقية وتدفعنا إلى الذهاب إلى استوديهات التصوير الفوتوغرافي. ولكن الصورة الرقيمة كأداة لتشكيل الهوية الذاتية باتت واقعا لا يمكن تجاهله.وربما علينا أن نجري تعديلا بسيطا على المصطلح، فالأمر لا يتعلق بتشكيل الهوية الذاتية للفرد ولكن بتشكيل الذات كهوية. فالصورة تشكلنا رقميا وافتراضيا لأن المسألة لم تعد تقديم صورة الذات ولكن تقديم صور عن الذات، تستجيب لتوقعات وتماهي أنماط سائدة ومعترف بها. ويوفر المجال الافتراضي ما يلزم من أدوات التكنولوجيا لإعادة تشكيل أو ترميم أو خلق الذات فى صورة. وقد نتماهي مع صورتنا المصنوعة لدرجة الاعتقاد أنها الواقع الذي ينبغي أن نكونه، وأن حقيقتنا هي مجرد انحراف علينا أن نصححه باستمرار.
وفي الاتجاه ذاته، يعطينا المجال الافتراضي فرصة خلق مسافة بيننا وبين صورتنا، فالشخص وصورته هويات لحظية وعابرة، وفى اللحظات العابرة توجد فجوات للترميم والاستبدال وإعادة الخلق. إن قلق الصورة الرقمية مؤقت، أماالصورة الوحيدة التي مازالت تثير فينا القلق وعدم الرضا هي صورتنا التقليدية، وخاصة صورة البطاقة، ليس بسبب أنها لا تعجبنا لأنها تشبهنا، ولكن بسبب انها دائمة ورسمية وستظل لصيقة بنا لمدة 7 سنوات لحين تغييرها. ومع ذلك لا يمكن القول أن قدرتنا على تغيير وتحوير الصورة الرقمية أعطتنا سلطة على الصورة، فقد يكون العكس هو الصحيح، وهو أننا أصبحنا سجناء الصور.
لقد حدثنا “رولان بارت” عن التصورات التى تصاحب الوقوف أمام عدسة المصور فى الاستوديو، قائلا “أكون أمام العدسة فى الوقت نفسه: الشخص الذي أعتقد أنه أنا، والشخص الذي أريد للآخرين أن يعتقدوا أنه أنا، والشخص الذي يعتقد المصوِر أنه أنا، والشخص الذي استعمله المصوِر لكي يعرض فنه..”. فأي من هذه التصورات نرثها عندما نلتقط صورة من كاميرا المحمول لنعرضها رقميا؟ قد لايكون أى منها وقد تكون جميعها مع اختلاف أساسي وهو أن المصور وصاحب الصورة كيانا واحدا، مع أن الصورة وصاحبها ليس بالضرورة كيانا واحدا. إن الصورة الرقمية تناسب أجيال بلا ذاكرة أو بذاكرة مختلفة، وتناسب ذوات بلا هوية، أو بهويات سريعة التحضير والتغير.