بات من المعروف، أو في حكم اليقين، أننا نعيش زمن التواصل والاتصال، وذلك بفضل تكنولوجيا الاتصال الحديثة، وقد بات من الأمور المزعجة وربما الخطيرة أن يكون الفرد غير متصل Disconnected، فهنا تكمن العزلة. وظهرت مفاهيم جديدة مثلإدمان الفيسبوك Facebook addiction ورهاب فقدان المحمول Nomophobia، إلى غير ذلك من أعراض ومظاهر أمراض وسائل التواصل الاجتماعى. ومع ذلك فإن كثافة التواصل لا تعنى بالضرورة أننا، اجتماعيا وإنسانيا، فى حالة تواصل، فقد يكون العكس هو الصحيح، حيث يزداد شعورنا بالعزلة. ويمكن القول أن ثمة معادلة جديدة تجمع ثنايئة العزلة والتواصل، ومن خلالها يمكن التفكير فيهما ليس بوصفهما طرفى نقيض، ولكن مركب متواصل، فالعزلة أحد عناصر ومكونات هذا النمط الجديد من التواصل إن لم تكن احد شروط تحققه. وبكلمات أخرى، العزلة لم تعد تعنى الانعزال الجسدى والمادى والاجتماعي، ولكن الخروج من أو الانقطاع عن شبكات التواصل الاجتماعى.
وما أريد أن أتحدث عنه فى هذا المقال ليس العزلة بالمعنى الاجتماعي والجسدي، ولكن أريد أن أتحدث عن عزلة الكلام، أو عزل الكلام. إن الحركة السريعة لتداول الكلمات والعبارات فى شبكات التواصل الاجتماعى بقدرتها الهائلة على القطع والوصل تنزع الكلمات والعبارات من سياقها، فليس هناك سوى سياق الحركة والتداول والتعليق والحضور والغياب. كما أن الكلمات والعبارات تأخذ مشروعيتها المؤقتة من قدرتها على الدوران والتداولوليس من قدرتها على التعبير عن مشاعر أو وقائع. وبمعنى آخر لا يوجد نص، ولا توجد قصة بل عبارات بلا نص أو نصوص تم تفكيكها وتوظيفها ضمن حالة عابرة، تظهر على السطح ثم تختفى من الذاكرة العابرة والسريعة للمجال الافتراضى.
فعلى سبيل المثال، يمكن أن نعبر افتراضيا عن الحزن والفرح فى نفس اللحظة، لأن الأمر لا يتطلب مشاعر وإنما الضغط على رموز تبتلعها آلة الحركة الافتراضية، رموزا نمطية وسابقة التجهيز والتى تتمثل وحداتها فى رموز إعجاب like وحب love وعناية Care و مشاركة share، وفي أحسن الأحوال تعليقات عابرة وسريعة. وهكذا تضيع الحدود بين الحزن والفرح، وتتسع الفجوة بين المواقف والمشاعر، فرمز الفرح لا يعنى بالضرورة الفرح، ورمز الحزن لا يعنى بالضرورة الحزن.
ومن منظور الطاقة، فإن النص التقليدى المكتوب أو المسجل يختزن طاقته في ذاته وفي سكونه، وهو دائما فى حاجة إلى من يأتي إليه ويوقظه، فالنص يحتاج إلى قارئ يحرر طاقته الكامنة والمخزونة، وهي في الغالب طاقة أيديولوجية أو علمية أو جمالية، أو طاقة مشاعر خاصة كما كان الحال فى المراسلات التقليدية. وعلى القارئ أن يكتشف هذه الطاقة ويستشعرها من خلال علاقة خاصة بينه وبين النص. أما فى المجال الافتراضي، فجل العبارات والجملالمتحركة والخاطفة لا تعطى طاقة ولكنها تستهلك طاقة تتولد من خلال الحركة، فلا مجال للسكون ولا الإحالات. فعملية التدوال والتدوير أساسية لشحن الجمل والعبارات بالطاقة. وبمجرد أن تتوقف الحمل والعبارات والصور عن الحركة فإنها تفقد طاقتها تماما ولا تختزنها فتذبل وتدخل عالم النسيان. وهكذا فإن أعداداهائلة من العبارات والجمل التى تأخذ صفة “التريند” تمتص الكثير من الطاقة فتحظى بقوة ومشروعية رغم أنها قد تكون منزوعة السياق وبلا معنى أو قيمة أو تنطوى على أكاذيب، ولكن سرعان ما تفقد طاقتها وتختفى.
وبهذا المعنى، فإن الكلمات العابرة والسريعة قد تعزل الوقائع التى تتدعى أنها تعبر عنها، فالكلمات فى تحركها فى المجال الافتراضى تبدو كشظايا متحركة في فضاء التداول الافتراضى. وعلى الرغم من أن الكثير ممن يستخدمون الفيسبوك ينتقدون عدم الموضوعية والسرعة التي تصيب البعض بالإنزعاج فيقررون الخروج من دائرة المجال الافتراضى، إلا أن قوة الإدمان غالبا ما تدفعهم للعودة لملاحقة كلمات وعبارت تتوهج وتختفى مثل الألعاب النارية، فنبقى كما يقول الشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش: “عابرون في كلام عابر”.