تتواصل حلقات الاجتياح العسكري الروسي لأوكرانيا, وتسيطر تماما علي سائر وكالات الأنباء والفضائيات حول العالم.. وتتواصل معها حرب أكثر منها ضراوة هي الحرب الإعلامية والسياسية التي تعمل علي تشكيل الوعي للرأي العام العالمي -حتي عن طريق استحلال خداعه- باللجوء إلي جميع الأدوات والسبل المشروعة وغير المشروعة من تزييف الحقائق وافتعال الوقائع… لكن تظل هناك نقاط مضيئة لأناس يسبحون ضد التيار وتواتيهم الشجاعة لتسجيل مواقفهم التي تفضح جموح أنظمة وتطرف سياسات.
عرضت الأسبوع الماضي لمضمون خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الموجه لكل من شعب روسيا وشعب أوكرانيا والذي رصد الجذور التاريخية التي تربط الشعبين والاستفزازات الغربية التي تتنكر لمعايير التوازنات العسكرية القائمة بين المعسكرين الشرقي والغربي التي أججت الصراع المحتدم الآن… واليوم أرصد جانبا آخر مهما جدا في هذا المعترك, فقد ذكرت في ختام مقال الأسبوع الماضي أن ما استعرضته من وجهة نظر الرئيس بوتين ليس مفاده أني منحاز إلي وجهة النظر الروسية في هذا الصراع, إنما لأني أردت إحداث توازن معلوماتي مع الفضاء السياسي والإعلامي الغربي الذي يتباكي علي الديمقراطية وحقوق الإنسان ويسرف في تصوير ما يحدث علي أنه مواجهة غير متكافئة بين الشيطان الروسي والضحية الأوكرانية!!…
اليوم أرصد عددا من النماذج لآراء شخصيات رسمية أمريكية خرجت عن السياق السائد ولم تتورع في تسجيل تقييمها لجذور وآليات الصراع الذي نحن بصدده والذي يتم تصويره علي أنه اجتياح عسكري روسي للجارة أوكرانيا, بينما هو في الحقيقة حلقة من حلقات المواجهة السياسية العسكرية بين القوتين العظميين في عالمنا: القوة الأمريكية وأتباعها الأوروبيون, والقوة الروسية وأتباعها في الصين وكوريا الشمالية… وهذه نماذج في السياق:
** في ندوة أقيمت في جامعة ييل الأمريكية.. قال أحد المشاركين (لم يرد اسمه في الفيديو): دعوني أذكركم بأن كلمة السر في الأزمة التي نحن بصددها هي التسوية, وسأعود إلي أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 حيث كان اثنان من القادة المستقلين هما نيكيتا خروشوف رئيس روسيا وفيدل كاسترو رئيس كوبا قد اتفقا علي أن تضع روسيا قواعد صواريخ علي الأرض الكوبية.. وهل كان لهما الحق في ذلك؟.. بكل تأكيد نعم, باعتبارهما دولتين مستقلتين, وهكذا شرعت روسيا في نقل قطع الصواريخ لتجميعها في كوبا.. لكن عندما اكتشفت الولايات المتحدة ذلك انتفض الرئيس جون كيندي وقال للروس: عودوا بسفنكم وإلا سنغرقها, وإذا كان ذلك سيؤدي إلي اندلاع حرب عالمية ثالثة فليكن.., وبالفعل عادت السفن الروسية أدراجها, وتم ذلك بموجب تسوية لم يعلن عنها آنذاك, فقد وافق كيندي علي سحب الصواريخ الأمريكية المركبة في تركيا في مقابل عدم تركيب صواريخ روسية في كوبا.. الروس قالوا: أمريكا تضع صواريخها علي حدودنا فإذا كانت أمريكا تعتبر صواريخ روسيا في كوبا تهديدا وجوديا لها, فكذلك صواريخ أمريكا في تركيا تهديد وجودي لروسيا.. وبذلك تم الحيلولة دون اندلاع حرب عالمية ثالثة.
الآن القيادة الروسية تعتبر حلف شمال الأطلنطي ناتو تهديدا وجوديا لها وذلك أمر لا يرتبط بالسياسة إنما بالأمن القومي فلماذا تصر القيادة الأمريكية والدول الغربية علي زرع قواعد للحلف أقرب فأقرب من حدود روسيا؟.. حدث ذلك في لاتفيا ثم في إستونيا.. والآن تريد أوكرانيا الانضمام إلي المجموعة الأوروبية وبالتالي إلي الناتو.. وينتج عن ذلك أن الأسطول الروسي سيصبح في مواجهة محتملة مع الأسطول السادس الأمريكي في سيفاستوبول مقر البحرية الروسية علي البحر الأسود.. والروس يعتبرون هذا الاحتمال بمثابة تهديد وجودي لهم, ويقولون إنهم لن يسمحوا بذلك.. هل يتوافق ذلك مع القانون الدولي؟.. بالطبع لا.. لكن عندما تواجه دولة ما تهديدا وجوديا لأمنها فلن تكترث بالقانون الدولي, وذلك عينه ما حدث في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.. وأنا أتصور أنه يلزم إبرام اتفاق دولي ينص علي منع أوكرانيا من الانضمام إلي المجموعة الأوروبية أو حلف شمال الأطلنطي خلال الخمسين عاما المقبلة علي الأقل لنزع فتيل هذا النزاع وإلا فلن يكون هناك وجود لأوكرانيا.
** قناة فوكس نيوز الأمريكية تستضيف الكولونيل دوجلاس ماكريجور المستشار السابق لوزير الدفاع الأمريكي: بوتين ينفذ تبعات ما دأب علي إنذارنا من مغبته من خمسة عشر عاما علي الأقل وهي أنه لن يقبل وجود قوات أو صواريخ أمريكية متاخمة لحدود روسيا, مثلما لم تقبل أمريكا وجود قوات أو صواريخ روسية في كوبا عام 1962, ولن تقبل روسيا انضمام أوكرانيا تحت أي ظرف من الظروف لحلف الناتو, الآن المعركة في جنوب شرق أوكرانيا تقترب من الحسم, فمعظم قوات أوكرانيا تم حصارها وقطع الإمدادات عنها وإذا لم تستسلم للقوات الروسية فسيتم إبادتها, لذلك ليس أمام الرئيس الأوكراني زيلينسكي سوي التفاوض مع الروس لإيجاد أفضل السبل لإنقاذ بلاده, والإدارة الأمريكية ألمحت أن حياد أوكرانيا سوف يكون الموقف الوحيد لضمان ذلك, وأنا أظن أن بوتين سوف يقبل ذلك فيما يخص القطاع الغربي من أوكرانيا, أما القطاع الشرقي المتاخم للحدود الروسية فقد يشرع بوتين في تأسيس جمهورية مستقلة فيه تابعة لروسيا وذلك لأنه تاريخيا وسكانيا كان مرتبطا بروسيا… العالم الغربي بقيادة أمريكا يحاول جر بوتين إلي صراع عسكري لا يرغب فيه ولن يستدرج نحوه, بوتين يعمل علي تأمين حدود بلاده ضد تهديدات حلف الناتو فحسب, ودعني أقول إن أوكرانيا طبقا لمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان وسائر ما تتشدق به الدول الغربية لا ترقي إلي ما يستحق تلك المواجهة مع روسيا والتحرش بها- وبالتالي أنا أعتقد أننا يجب أن ننأي بأنفسنا عن هذا الصراع, وكثير من الأمريكيين يعتقدون ذلك, والعجيب أن الدول الأوروبية تري ذلك أيضا رغم خضوعها للضغوط الأمريكية لتحذو حذو أمريكا في هذا الصراع… ويجب أن نتوقف عن شحن الأسلحة والعتاد لدفع الأوكرانيين نحو حتفهم في مصير محتوم لا أمل من ورائه.. أنا لا أري أي منطق في تحدي الروس بشأن أمر قاموا بتحذيرنا من مغبته منذ سنوات طويلة ونحن كنا مصرين علي تجاهل ذلك.. إننا لن نرسل قواتنا الأمريكية أو الأوروبية لتقاتل القوات الروسية في أوكرانيا.. لكننا ندفع بالقوات الأوكرانية إلي معركة لا يمكن لها أن تنتصر فيها وسوف تنتج عن ذلك كارثة إنسانية رهيبة وغير مسبوقة ويلزم إيقافها والحيلولة دون استمرارها.
** تصريح أدلت به تولسي جابارد المرشحة الديمقراطية للرئاسة الأمريكية عام 2020.. الرئيس بايدن يمكنه أن يصنع نهاية لهذه الأزمة ويتجنب حربا مع روسيا عن طريق ضمان ألا تكون أوكرانيا عضوا في حلف شمال الأطلنطي ناتو لأن انضمام أوكرانيا إلي ناتو سوف يهدد بوضع قوات الحلف مباشرة علي حدود روسيا الجنوبية الشرقية وهو الأمر الذي طالما حذر الرئيس بوتين من أنه يهدد الأمن القومي الروسي.. أنا لا أري أي حائل دون اعتراف أمريكا والمجموعة الأوروبية بذلك, لكني أشك في أن هدف المعسكر الغربي هو جر روسيا لاجتياح أوكرانيا للانطلاق في إنزال العقوبات الاقتصادية عليها مع سائر معايير عزلها ومقاطعتها, وهي معايير هذا الزمان البديلة عن الحروب العسكرية للإطاحة بأنظمة وحكومات والإضرار بشعوب وللعودة إلي زمان الحرب الباردة. إن آلة الحرب ومافيا صناعة السلاح الغربية هي التي تخطط لذلك وتستفيد من تأجيج تلك الصراعات وتستهدف تنشيط سوق تجارة السلاح أكثر كثيرا مما سبق أن فعلته في حرب أمريكا ضد تنظيم القاعدة.. ومن يدفع الثمن؟.. إنه الشعب الأمريكي والشعب الأوكراني والشعب الروسي, ولا تأبه بما يمثله ذلك من تهديد لأمننا القومي طالما أنها تسيطر علي الكثير من السياسيين الأمريكيين.. كل ما نسمعه من الإدارة الأمريكية هو ادعاؤها أنها تدافع عن الديمقراطية في أوكرانيا.. لكن الحقيقة تختلف عن ذلك جذريا حيث النظام الحاكم في أوكرانيا يخنق الديمقراطية ويلقي القبض علي قادة المعارضة كما يخرس منابر الرأي المعارض.. إنني أجد من العسير أن أتقبل تصريحات الرئيس بايدن بأن الإدارة الأمريكية تدافع عن الديمقراطية في أوكرانيا.