الآن تندلع الحرب التي خشاها لكن توقعها الجميع… اجتاحت القوات الروسية أراضي أوكرانيا لتتعقب نظاما حاكما, متهمة إياه بممارسات عنصرية قمعية ضد أقليات روسية تعيش في أوكرانيا, علاوة علي ضلوعه في التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية لتحويل أوكرانيا إلي قاعدة عسكرية ملاصقة للحدود الجنوبية الغربية لروسيا بما يشكل تهديدا صارخا لأمن روسيا وخرقا خطيرا لسائر الاتفاقيات السياسية والعسكرية التي تمنع تمدد حلف شمال الأطلنطي ناتو شرقا… الآن تملأ الفضاء الإعلامي الغربي صرخات التباكي علي اعتداء روسيا علي القانون الدولي واستباحتها دولة ذات سيادة, وتمطر أمريكا -بتبعية حذرة من دول غرب أوروبا- روسيا بحزم من العقوبات السياسية والاقتصادية مع تقديم مختلف أوجه الدعم لأوكرانيا.
وفي إطار فضح ازدواج المعايير الذي لا تتورع السياسة الأمريكية عن الانزلاق فيه, لا أملك مع الكثيرين سوي استدعاء أزمة الصواريخ الروسية علي أراضي كوبا والتي انفجرت عام 1962 ووقف العالم وقتها أنفاسه محتبسة إزاء مغبة انفجار حرب عالمية ثالثة بين القوتين العظميين: أمريكا برئاسة جون كيندي وروسيا برئاسة نيكيتا خروشوف… وأقول متعجبا: ما أشبه اليوم بالبارحة… وقتها انتفضت القيادة الأمريكية رافضة أن تنصب روسيا بالتحالف مع الرئيس الكوبي فيدل كاسترو قواعد صواريخ علي الأراضي الكوبية باعتبارها تمثل تهديدا سافرا لأمنها القومي وهدد كيندي بضرب السفن الروسية الحاملة للصواريخ والتي كانت في طريقها إلي كوبا… ولم ينزع فتيل المواجهة الكارثية المحتملة سوي تراجع خروشوف وعودة تلك السفن إلي روسيا وعدم إقامة قواعد عسكرية روسية ملاصقة للحدود الجنوبية الشرقية لأمريكا.. ولكن تراجع خروشوف لم يكن دون ثمن, فقد ألزم أمريكا علي سحب صواريخها المنصوبة في تركيا آنذاك لئلا تهدد أي من الدولتين أمن الدولة الأخري بصواريخ ملاصقة لحدودها… وبالرغم من سحب فتيل انفجار حرب عالمية ثالثة وقتها إلا أن أمريكا ما لبثت تخطط لتمدد حلف دول شمال الأطلنطي ناتو واقترابه شيئا فشيئا من حدود روسيا, فعلت ذلك من خلال تحالف دول غرب أوروبا أولا, ثم لاحت لها الفرصة الذهبية مع تفكك الاتحاد السوفيتي وانشقاق دول شرق أوروبا عنه وتمتعها بالاستقلال فانطلقت أمريكا في ضم تلك الدول إلي الحلف وتسليحها غير عابئة بخرقها للتوازنات العسكرية القائمة بينها وبين روسيا والتي تمنع أحدهما من الاقتراب من حدود الآخر بما يهدد أمنه القومي… لكن أمريكا بكل غطرسة وصلف ارتضت لنفسها أن تجعل من كل دول شرق أوروبا كوبا جديدة!!!… وها هي لا تتورع عن اختراق أوكرانيا علي البوابة الجنوبية الغربية لروسيا.
لعل الكثيرين -وسط ضجيج آلات السياسة والإعلام الأمريكية والغربية- لا يعرفون الموقف الروسي وما هي الدوافع المتراكمة الكامنة وراء الاجتياح الروسي الأخير لأوكرانيا.. وفي هذا الصدد تنشر وطني في هذا العدد وجهة النظر الروسية من خلال خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي وجهه إلي كل من الشعب الروسي والشعب الأوكراني والذي يسرد فيه بالتفصيل الأسباب والوقائع والتحديات والاستفزازات التي دعت إلي اتخاذ قرار التدخل العسكري في أوكرانيا… وأنا أستقطع هنا الملامح الرئيسية في هذا الخطاب:
** أوكرانيا بالنسبة لنا ليست مجرد دولة مجاورة, إنما هي جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا وعالمنا الروحي; فهؤلاء هم رفاقنا وأقاربنا ومن بينهم ليس فقط الزملاء والأصدقاء, لكن أيضا الأقارب ومن تربطنا بهم صلات الرحم والقربي.
** شعبنا الروسي اعترف بالحقائق الجيوسياسية الجديدة التي نشأت إثر انهيار الاتحاد السوفيتي, واعترف بالدول المستقلة الجديدة, بل إن روسيا وعلي الرغم من وجودها آنذاك في وضع صعب قامت بمساعدة تلك الدول بما في ذلك أوكرانيا بالاستجابة لمطالبها بالدعم المالي, وقد تم تقديم هذا الدعم في ظل احترام كامل لكرامتها وسيادتها… بالرغم من ذلك شرعت السلطات الأوكرانية في بناء دولتها علي إنكار كل ما يوحدنا وسعت إلي تشويه الوعي والذاكرة التاريخية لملايين السكان, ونتج عن ذلك صعود القومية المتطرفة التي سرعان ما اتخذت شكل النازية الجديدة وإرهاب السكان من أصل روسي علي أراضيها.
** يستمر ذلك المسار الهادف إلي نزع الطابع الروسي عن أوكرانيا في صورة إصدار البرلمان الأوكراني قوانين عنصرية تتولي إقصاء السكان ذوي الأصل الروسي واغتيال هويتهم ولغتهم وثقافتهم, بل إن القوانين تقر أنهم أصبحوا غرباء في أوكرانيا.
** علي صعيد آخر فتحت أوكرانيا أراضيها وحدودها لتغلغل الآلة العسكرية الأمريكية.. فبالرغم من عدم انضمامها إلي حلف دول شمال الأطلنطي ناتو إلا أنها سمحت بنشر أسلحة الدمار الشامل علي أراضيها مع تدفق المدربين والمتخصصين والمستشارين الأجانب الذين تولوا دمج قيادة القوات المسلحة الأوكرانية مع أنظمة ناتو… علاوة علي تحديث شبكة المطارات العسكرية في أوكرانيا بواسطة الأمريكيين بحيث تصبح قادرة علي ضمان نقل الوحدات العسكرية الأجنبية في أقصر وقت ممكن مع فتح المجال الجوي الأوكراني أمام الطائرات الاستراتيجية وطائرات الاستطلاع والمراقبة للأراضي الروسية… هذا بالإضافة إلي مركز العمليات البحرية الذي بناه الأمريكيون في أوتشاكوفو علي البحر الأسود وما يمثله من إمكانية ضمان تحرك سفن ناتو وبالتالي تهديد الأسطول الروسي وبنيته التحتية علي طول ساحل البحر الأسود.
** لطالما أعلنت أوكرانيا انتهاجها مسارا استراتيجيا نحو الانضمام إلي حلف ناتو وطبعا لكل دولة الحق في اختيار نظامها الأمني وإبرام التحالفات العسكرية, لكن الوثائق الدولية تسجل صراحة مبدأ الأمن المتساوي غير القابل للتجزئة والذي يتضمن التزامات بعدم تعزيز أمن الدول علي حساب أمن دول أخري.. جاء ذلك في ميثاق منظمة الأمن والتعاون الأوروبي عام 1999 في إسطنبول, وفي إعلان أستانا عام 2010 الصادر عن نفس المنظمة… وبناء عليه فإن انضمام أوكرانيا إلي حلف ناتو يمثل تهديدا مباشرا لأمن روسيا.
** سياسات أمريكا تجاه روسيا عدائية في جميع المجالات, فمع تجاهل مخاوفنا الأمنية تجاه توسع حلف ناتو يستمر دعمها المفتوح للإرهابيين في شمال القوقاز, ثم انسحابها من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية… لماذا كل هذا؟… إن كانت أمريكا لا تريد روسيا صديقا أو حليفا لماذا تصر أن تصنع منها عدوا؟
** تكفي نظرة واحدة إلي الخريطة لبيان كيف أوفت الدول الغربية بتعهدها بعدم تمدد حلف ناتو شرقا… لقد خدعونا بكل بساطة.. تلقينا موجات متتابعة لتوسع الحلف شرقا. عام 1999 تم ضم بولندا وجمهورية التشيك والمجر, عام 2004 تم ضم بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا, عام 2017 الجبل الأسود, عام 2020 مقدونيا الشمالية. هكذا جاء الحلف ببنيته التحتية العسكرية مباشرة إلي حدود روسيا ليشكل أحد أقوي الأسباب للأزمة الأمنية الأوروبية وفقدان الثقة بيننا بما يهدد بإمكان توجيه ضربات ضد روسيا, وإذا استمر الوضع كذلك ستكون أوكرانيا بمثابة رأس الحربة لمثل تلك الضربات.. أريد أن يفهم الجميع في روسيا وأوكرانيا ذلك.
** إننا مستعدون للسير علي طريق المفاوضات والتي تتضمن ثلاث نقاط رئيسية: الأولي وقف تمدد ناتو شرقا, والثانية توقف نشر الحلف أسلحة ضاربة علي الحدود الروسية, والثالثة عودة البنية العسكرية للحلف إلي وضع عام 1997 عندما تم التوقيع علي الوثيقة التأسيسية بينه وبين روسيا… لكن للأسف يتم تجاهل مقترحاتنا لسلوك طريق المفاوضات والاستعاضة عنها بتهديدنا بالعقوبات.. إننا لن نتنازل عن سيادتنا وقيمنا ومصالحنا الوطنية.. وبناء عليه فلدي روسيا كل الحق في اتخاذ إجراءات مقابلة لضمان أمنها, وهذا بالضبط ما سوف نفعله.
** حرصت علي عرض الملامح الرئيسية لخطاب بوتين إلي كل من الشعب الروسي والأوكراني ليس لأني منحاز إلي وجهة النظر الروسية في هذا الصراع وما أسفر عنه من عمليات عسكرية, لكن لأني أردت إحداث توازن معلوماتي مع الفضاء السياسي الغربي الجارف سياسيا وإعلاميا.
… وماذا يقول أمريكيون عن اجتياح روسيا لأوكرانيا؟