نشأنا وترعرعنا في بلادنا ونحن نعرف أن العدالة يرمز لها بامرأة معصوبة العينين, تشير إلي أن معيار العدل مقصور علي إدراك الوقائع والأدلة الدامغة وإعمال القانون دون رؤية أي شيء آخر قد يعرقل ترسيخ العدل أو ينزلق به نحو ازدواجية المعايير.
هذه المعرفة اليقينية طالما شكلت لدينا انطباعا مقدسا لمنصات العدالة سواء في بلادنا أو في سائر بلاد العالم أو في المؤسسات الدولية المنوطة بإرساء العدل وتطبيق القانون -صحيح أن الأمر لم يخل من حالات مؤسفة ذبحت فيها العدالة علي أيدي بعض تلك المنصات لحساب أنظمة سياسية مارقة, لكن أن تذبح العدالة أو تزدوج المعايير في محراب منصات العدالة المستقلة دوليا وعالميا, فهذا ما يعد صادما ويندر حدوثه… اليوم أعرض لواحدة من الأمثلة الصارخة علي ازدواج المعايير والتي أمسكت متلبسة بها محكمة العدل الدولية في لاهاي بناء علي شهادة محامية أيرلندية أدلت بها في نهاية يناير الماضي… المحامية تدعي بلين ني جرالاي وقد وجهت دعواها في عقر دار المحكمة أمام سائر أعضاء هيئتها القضائية, حيث قدمت تشريحا تفصيليا للمأساة الإنسانية التي تحدث للفلسطينيين في غزة وتلكؤ هيئة المحكمة في اتخاذ موقف صارم إزاءها, في مقابل ما قامت المحامية بتوثيقه من نماذج تقل في وطأتها وبشاعتها تنتمي إلي مناطق أخري للنزاعات حول العالم لم تتردد هيئة المحكمة في اتخاذ مواقف صارمة وإصدار أحكام دامغة إزاءها… وإليكم أهم ملامح هذه الشهادة التي وصفت بحق أنها شهادة تاريخية:
** هناك احتياج ماس لاتخاذ مجموعة من التدابير الاحتياطية لحماية الفلسطينيين في غزة من مغبة الضرر الذي يحيق بهم من جراء الانتهاكات الإسرائيلية لاتفاقية الحماية ضد الإبادة الجماعية… وطبقا لوصف كل من السكرتير العام للأمم المتحدة وكبار موظفيها فإن ما يحدث في غزة هو بمثابة مأساة إنسانية وجحيم وحمام دم, تشكل في مجموعها وضعا غير مسبوق للترويع والإرهاب… وفي هذا الإطار استرسلت مقدمة الشهادة في استعراض تفصيلي لكل ما تعرض له أهل غزة من مآس وترويع وتشريد وقتل وتدمير سواء لمدنهم أو قراهم أو احتياجاتهم الأساسية أو مرافقهم الصحية حتي باتوا يواجهون تطهيرا عرقيا وتهديدا وجوديا, مصحوبين بعرقلة إسرائيلية مانعة لتدفق المساعدات الإنسانية الملحة لهم من أغذية وأدوية ومستلزمات طبية ومواد إغاثة تنتشلهم من الضياع والعراء والفقد الذي يحيق بهم دون تدخل دولي مؤثر وملموس.. ودون موقف صارم دامغ من محكمة العدل الدولية.
** من الثابت أنه خلال عقود مضت أعربت هيئة محكمة العدل الدولية عن يقينها إزاء ثبات وقوع جرائم المخاطرة بالوجود الإنساني وحقوقه الأساسية في كل من جورجيا وروسيا وأرمينيا وأذربيجان وبناء عليه أصدرت قراراتها لضرورة اتخاذ الإجراءات الوقائية من أجل حماية مئات الآلاف من الضحايا والمشردين… وأود أن أذكركم أن في حالة سكان غزة الذين يبلغ تعدادهم مليوني مواطن هناك 85% منهم تم إجبارهم علي مغادرة مساكنهم وتشريدهم في العراء حيث يتعرضون بلا هوادة للقصف والقتل.. وهذا مشهد مستمر منذ نحو ستة عشر عاما.
** سبق لمحكمة العدل الدولية أن أصدرت أحكاما باتخاذ التدابير الاحتياطية لحماية أسر تعرضت للنزوح من أماكن إقامتها وتهديد أبنائها بحرمانهم من الذهاب إلي مدارسهم وجامعاتهم وأداء امتحاناتهم.. كان ذلك في قطر.. فكيف يمكن تبرير تلك التدابير التي نالت 150 طالبا في قطر بينما نحن إزاء حالة كارثية مماثلة في غزة تمس 625 ألف طفل وتلميذ محرومين من الذهاب لمدارسهم ونحو 60% من شباب الجامعات محرومين من الذهاب لجامعاتهم… علما بأن المأساة هناك تشمل تدميرا شاملا للجامعات والمكتبات ومقتل مئات من المدرسين والأكاديميين.
** كل تلك التدابير سبق للمحكمة اتخاذها في مختلف أماكن الصراعات مثل البوسنة وصربيا عام 1993 حيث ثبت للمحكمة وقوع مخاطر جمة تهدد بالتطهير العرقي, كذلك في حالة الصراع في ميانمار حيث ثبت للمحكمة تعرض الروهينجا للقتل الغاشم بناء علي الهوية… أيضا في حالة الحرب الروسية الأوكرانية رأت المحكمة أن العمليات العسكرية الروسية تسببت في قتل وإصابة أعداد ضخمة من المدنيين مع إحداث تدمير لا يمكن تداركه في الأبنية والبنية التحتية والخدمات والمرافق… وأكرر أنه بالمقارنة بكل ذلك تتضاءل جميع هذه الحالات أمام ما حدث ويحدث في غزة.
** تكررت هذه المواقف والأحكام من جانب هيئة محكمة العدل الدولية إزاء الأحداث التي وقعت في الصراعات التي شهدتها الكونجو في أفريقيا, وكوستاريكا ونيكاراجوا وجويانا وفنزويلا في أمريكا اللاتينية, وميانمار في جنوب شرق آسيا, حيث سارعت هيئة المحكمة باتخاذ قرارات بفرض التدابير الاحتياطية التي من شأنها حماية المدنيين المعرضين للهجمات وللإبادة أو للتطهير العرقي… والتي تتضاءل أمام جرائم الإبادة والتطهير العرقي التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة.
** إذا كانت كل تلك التدابير السابقة التي اتخذت من جانب هيئة المحكمة مبررة إزاء الحالات التي ذكرتها والموزعة علي أماكن الصراعات في العالم… كيف يمكن غض البصر عما يحدث في غزة للفلسطينيين وهو يتجاوز بمراحل سائر تلك الحالات؟… إن هذا الواقع من ازدواجية المعايير يضع القانون الدولي علي المحك ويعلق قدرته نحو حماية سائر الشعوب في الميزان… إنني أضع في حوزة هيئة المحكمة ما يمليه عليها دورها, وما تحتمه سلطاتها من فرض سائر التدابير الاحتياطية الملحة التي تحول دون استمرار ما يحيق بالمواطنين الفلسطينيين في غزة من أضرار غير مسبوقة ومستعصية علي العلاج وتهدد كيانهم في حد ذاته.