ويستمر تهاوي جدار الصمت والتعتيم المشيد للحيلولة دون فضح الجرائم الإسرائيلية في غزة, وتتوالي الأصوات الحرة للسياسيين والخبراء الاستراتيجيين والمسئولين الأكاديميين منددة بأبشع صور التطهير العرقي والإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون علي أيدي الإسرائيليين ولا تزال تتمادي فصولها بفضل تواطؤ العالم الغربي -بقيادة أمريكا وأتباعها الأوروبيين- الذي ارتدي شعار لا أري.. لا أسمع.. ولا أتكلم.
ولعلي أشعر بقدر من الارتياح إزاء تولي تلك الأصوات الحرة التي كسرت الحظر المفروض علي إدانة إسرائيل لأني تكهنت أنها حتما سوف تأتي لا ريب في ذلك في أعقاب انفجار المظاهرات الشعبية اللاعنة لإسرائيل والمطالبة بالحق الفلسطيني في الكثير من العواصم والمدن الأمريكية والأوروبية وعبر دول العالم.
اليوم أواصل رصد وتوثيق شهادات الأصوات الحرة التي تنبع من معقل الصمت علي جريمة إسرائيل ومؤازرتها, الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتقد أنها تخدع العالم بتصريحات خائبة عن عدم رضائها عما يحدث في غزة من نوعية عيب كده يا إسرائيل.. هازعل منك!!!… وأوثق هنا شهادة السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز (مواليد 1941-82 سنة) عضو الكونجرس الأمريكي عن ولاية فيرمونت منذ عام 2007 والذي ينتمي إلي النشطاء السياسيين الأمريكيين… وأسلط الضوء هنا علي أهم ملامح شهادته حول مأساة غزة والفلسطينيين:
** دعوني أناقش أمرا مسكوتا عنه في كل من الكونجرس الأمريكي والإعلام, وهو أننا نرقب هذه الأيام واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث تتوالي فصولها في غزة أمام أعيننا وتتركنا في موضع المتواطئين إزاءها بصمتنا وتجاهلنا, إن موقف الكونجرس الأمريكي مما يحدث في غزة من شأنه أن ينقذ حياة عشرات الآلاف من الفلسطينيين أو يصدر عليهم حكما بالموت.
** لنعد إلي الوراء أربعة أشهر -أو بالحري خمسة أشهر الآن- منذ أن أطلقت حماس في 7 أكتوبر الماضي هجمتها الإرهابية التي أسفرت عن مقتل 1200 من الإسرائيليين الأبرياء وأسر نحو 230 من الرهائن الذين تم تحرير بعضهم لكن يبقي نحو مائة منهم قيد الأسر حتي الآن… هذا هو الواقع الذي فجر الحرب التي نحن بصددها, وكما قلت مرارا إن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها ضد إرهاب حماس, لكنها بالقطع ليس لها الحق في أن تشن حربا شعواء ضد سائر مواطني الشعب الفلسطيني, الأمر الذي نعايشه طوال الفترة الماضية وحتي الآن, وهو ما أسفر عن مقتل ما يزيد علي 27 ألف فلسطيني وإصابة ما يتجاوز 68 ألفا, نسبة الثلثين منهم من النساء والأطفال, بالإضافة إلي ذلك تم تشريد وإجلاء قسري لنحو 1.70 مليون مواطن فلسطيني يمثلون نسبة 80% من تعداد السكان… أولئك الفلسطينيون لا يعلمون ماذا سيكون عليه غدهم وهل سيعودون إلي مجتمعاتهم التي نزحوا منها في يوم من الأيام… إن الدمار الناتج عن الغارات الإسرائيلية غير مسبوق في التاريخ الحديث حيث أسفر عن تدمير كامل لنحو 70% من الأحياء السكنية ومرافق البنية التحتية, ولم يعد هناك كهرباء أومياه عذبة صالحة ولا منافذ للحصول علي خبز أو احتياجات أساسية. مياه الصرف الصحي باتت تغرق الطرقات والاتصالات أصبحت شبه معدومة بفضل تداعي الشبكات… هذا علاوة علي انهيار منظومة الخدمات الصحية بعد تقلص عمل المستشفيات وانهيار مرافقها بالرغم من الشجاعة الملفتة للعاملين فيها الذين يستمرون في القيام بمهامهم في رعاية المرضي والمصابين حتي في ظل انقطاع الكهرباء ونفاد المستلزمات الطبية.
** إن الوضع في غزة كارثي بجميع المقاييس, فبالإضافة إلي الدمار والتشريد اللذين يتعرض لهما الفلسطينيون, تقف إسرائيل حائلا دون وصول المساعدات الإنسانية لهم عبر معبر رفح, وما ينجح في المرور لا يتجاوز نسبة ضئيلة جدا لا تفي بالاحتياجات الماسة للمأسورين جنوب قطاع غزة الذي يحتشد فيه الفلسطينيون الذين تم دفعهم عنوة إلي هناك… والنتيجة المأساوية لهذا الواقع المتردي أن مئات الآلاف من أطفال غزة يواجهون الموت جوعا, وطبقا لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة فإن واحدا من كل عشرة أطفال تحت سن الخامسة في غزة يواجه المجاعة التي حتما ستتسبب في خلل عضوي وعقلي ونفسي دائم لهم… إن أبعاد الكارثة تتمثل في احتشاد أكثر من نصف سكان غزة وهو ما يقدر بعدد 1.40 مليون مواطن في مساحة محدودة متاخمة لمعبر رفح علي الحدود المصرية, علما بأن رفح كانت مدينة تؤم ما لا يتجاوز 250 ألف مواطن قبل اندلاع الحرب… هذا العدد يحتشد الآن في مخيمات تابعة للأمم المتحدة أو يبيتون في العراء يواجهون تحدي البقاء والحصول علي الغذاء وسائر الاحتياجات الإنسانية الأساسية.
** في ظل كل جوانب تلك المأساة الإنسانية يطلع علينا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مصرحا أن إسرائيل بصدد شن هجمة عسكرية برية علي قطاع رفح حيث يحتشد 1.40 مليون فلسطيني, الأمر الذي ينذر بواقع كارثي لأولئك المدنيين المستهلكين والمرعوبين والجوعي واليائسين والذين لا يعرفون أين يلجأون… أنا أعجز عن إيجاد تعبير مناسب لوصف هذا الواقع الإجرامي.
*** دعوني أقول إن ما يحدث الآن في غزة يتم تمويله من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين… وما يستخدم في المعارك من أسلحة وذخيرة وقنابل هو ما تقدمه بلادنا لآلة الحرب الإسرائيلية… نحن ضالعون في كل هذا المشهد.. إنها ليست حربا إسرائيلية بل حربا أمريكية.. عندما سئل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو عن أهدافه من هذه الحرب قال: لن نقبل أقل من الانتصار الساحق وهو السحق الكامل للفلسطينيين… وذلك يدعونا للتساؤل: من أجل هذا المسعي الإسرائيلي كم يتبقي لنا من الأطفال الفلسطينيين ينبغي القضاء عليهم… وإلي متي تستمر الولايات المتحدة في دعم تلك المأساة الإنسانية؟
** من الواضح أنه فيما بعد التدمير الكامل لغزة يقف نتنياهو عاريا عن أية خطة سياسية سوي إصراره علي البقاء في السلطة إنقاذا لنفسه من مغبة المساءلة السياسية, ولإدراكه أن الكثير من الإسرائيليين يرفضون سياساته ويرغبون في محاكمته بسببها… الرئيس الأمريكي بايدن اعترف مؤخرا بشدة قسوة المأساة الحادثة في غزة والثمن الفادح الذي يدفعه الأبرياء من الفلسطينيين, وأن ذلك يلزم أن يتوقف… ولكن هذا يطرح سؤالا في غاية الأهمية: بينما يقول بايدن ذلك هو يقدم مشروعا للكونجرس الأمريكي بموجبه يتم رصد 10 بلايين دولار إضافية لتمويل آلة الحرب الإسرائيلية وللاستمرار في دعم خطط نتنياهو الشيطانية… نتنياهو الذي يقف حائلا دون الوصول إلي أي اتفاقات لتبادل الأسري ووقف إطلاق النار, دون أي مبرر سوي استمرار الحرب لاستمرار التشبث بالسلطة لتلافي المساءلة.
** ما يستعصي علي الإدراك أن سياسات الولايات المتحدة للتعامل مع هذه المأساة تشمل قطع التمويل عن منظمة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين والتي تعمل في قطاع غزة وتعد العمود الفقري للمساعدات الإنسانية هناك… فهل هناك مبرر مقبول لحرمان ما يقرب من مليوني فلسطيني من تلك المساعدات؟!!… نحن لا يمكن أن نتواطأ مع هذه الممارسات من جانب الحكومة الأمريكية ويجب هزيمة خططها ومساعيها لدعم آلة الحرب الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو.
*** هذه شهادة بيرني ساندرز حول ما يحدث في غزة.. والجدير بالذكر أن منذ نحو أسبوع مضي قامت كل من أستراليا وكندا والسويد والمجموعة الأوروبية باستئناف تمويل منظمة أونروا لإغاثة اللاجئين لتمكينها من مواصلة الإغاثة الإنسانية لقطاع غزة بالرغم من العقوبات الأمريكية.