نشأ جيلي تصاحبه مقولة إللي يفوته الميري يتمرغ في ترابه, وكانت تعني أن الأمان والاستقرار في الالتحاق بالوظيفة الحكومية, حيث العمل في القطاع الخاص يكتنفه الكثير من المجازفات, سواء في الأجر أو في استقرار العمل… وتأرجحنا بين التكالب علي الوظيفة الحكومية وبين التمرد عليها, بعد أن اجتذب القطاع الخاص شرائح كثيرة من سوق العمل انحازت إلي رواتبه الأعلي من رواتب الحكومة مع فرص الترقي غير المقرونة بالأقدمية ولكن الواعدة بتقدير الكفاءة… وعبر عقود متوالية مالت كفة الميزان لصالح القطاع الخاص حتي تراجع حلم الوظيفة الحكومية ولم تعد تجتذب الكفاءات الشابة التي تسابقت علي العمل في القطاع الخاص سعيا وراء الخبرة والكسب.
تلك المعايير ظلت مقرونة بانتعاش السوق ونمو القطاع الخاص, وحتي في حالة تأرجح السوق لدي بعض مؤسسات القطاع الخاص مما كان يتسبب في انخفاض الربح, كانت هناك استقلالية لذلك القطاع في التعامل مع إمكانياته سواء بتثبيت الأجور أو حتي تخفيضها أو بتخفيض العمالة حتي يتمكن من تجاوز أزمة عارضة, لكن أبدا لم يكن القطاع الخاص موضوعا تحت وصاية الدولة تفرض عليه -تحت دعوي الحرص علي صالح المواطنين- تطبيق حد أدني للأجور يجاوز ما تمليه عليه لوائح التأمينات الاجتماعية وقوانين الضرائب… فمن أين للدولة أن تعرف مدي قدرة مؤسسات القطاع الخاص علي تطبيق أي حد أدني للأجور يفرض عليها؟.. علما بأن ما يعنيه رفع الحد الأدني للأجور لا يقتصر علي رفع مرتبات الدرجة الدنيا في السلم الوظيفي وحدها, إنما يترتب علي ذلك مراجعة جميع درجات هرم الأجور لزيادتها بما يتناسب مع رفع الدرجات الدنيا, وذلك بالقطع له انعكاساته السلبية القاسية, بل والمدمرة, للقدرة التمويلية للقطاع الخاص إذا كان يحقق خسائر أو حتي إذا كان يحقق هامشا ضئيلا للربح, الأمر الذي سيؤدي حتما إلي غل يد القطاع الخاص عن تطبيق الحد الأدني للأجور, مما سيدفع به إما إلي الاستغناء عن شرائح من العمالة يدفع بها إلي مصير البطالة أو إلي الخروج بالكامل من سوق العمل.
فهل لا تزال الدولة تري في فرضها حدا أدني للأجور -دون أي ضوابط- علي القطاع الخاص إجراء يعمل لصالح المواطن؟… ماذا هي فاعلة إذا ترتب علي ذلك إفلاس مؤسسات وخروجها من سوق العمل؟… وماذا هي فاعلة إذا استخدم القطاع الخاص حقه في المواءمة بين عبء رفع الأجور وبين حجم العمالة التي يوظفها وقام بتسريح شرائح منها ودفعها إلي البطالة حتي يستطيع تمويل هرم الأجور للشرائح الباقية؟… إن تصدع قطاع الأعمال الخاص نتيجة الضغط عليه بهذه السياسات هو أمر جد خطير, وسوف ترث الدولة تبعاته وسيكون عليها مسئولية علاجها.
إن الدولة لها كل السلطة في أن تشرع للحد الأدني للأجور -وما يترتب عليه من تعديل هرم الأجور برمته- فيما يخص مؤسسات الدولة وأجهزتها الحكومية, فما تسمح به مواردها -أو وسائلها- لتمويل رفع مراتب الأجور يكون هنيئا للمصريين الذين يعملون لديها… فكما يقول المثل الشعبي: عايز تتفشخر, اتفشخر من جيبك, لكن أن تستنزف قدرات القطاع الخاص بلا أي ضوابط فذلك في ظاهره الحرص علي صالح المواطن الغلبان بينما في حقيقته الدفع به إلي التهلكة!!
ولعلي في هذا الصدد أستدعي نموذجا أكثر واقعية واعتدالا حين عرض علي البرلمان تشريع ينص علي رفع الحد الأدني للأجور, وبعد دراسته صدر التشريع يتضمن نصا بإعفاء الشركات والمؤسسات التي تثبت ميزانياتها الختامية المعتمدة من مراقبي حسابات قانونيين تحقيقها خسائر عن العام المالي السابق علي رفع الحد الأدني للأجور… وكان في ذلك مخرج عملي عادل يتفهم وضع الشركات الخاسرة ويقيها سيف القصاص الذي يحيق بها بالرغم من خسائرها… هذا حدث مرة واحدة, لكن ما تلاها من قرارات متتالية لرفع الحد الأدني للأجور لم يلتفت لوضع معايير تتناسب مع معدلات نتائج نشاط مؤسسات القطاع الخاص سواء بالإعفاء في حالة الخسائر أو بالتنسيب مع نسب تحقيق الأرباح حتي يكون الرفع المستهدف في إطار ما تتحمل وتطيق.
وقد يقول قائل: وما قولكم في أن هناك من مؤسسات الدولة ما تحقق خسائر ومع ذلك تنصاع لتطبيق رفع الحد الأدني للأجور؟… ويأتي الرد علي ذلك بأن المؤسسات التابعة للدولة تتمتع بحصانة متمثلة في حماية الدولة لها ودعمها وتغطية خسائرها -بل وإعفائها من المساءلة القانونية في حالة تقاعسها عن الوفاء بأعباء تأمينية أو ضريبية واعتبار ذلك التقاعس أمرا خاضعا للجدولة لحين الوفاء به- فأين للقطاع الخاص أن يتمتع بمثل تلك المظلة من الحصانة والحماية؟