في أكتوبر من عام 1985 ألقي الكاردينال أرنتز محاضرة في مركز دراسة الأديان العالمية الملحق بجامعة هارفارد بمناسبة مرور ربع قرن علي تأسيسه. فمن هو هذا الكاردينال؟ وما هي أفكاره؟ رسم هذا الكاردينال أسقفا في الكنيسة الكاثوليكية في عام 1965 وبعد عامين أصبح رئيسا للأساقفة. وفي عام 1984 عين رئيس اللجنة المختصة بالحوار مع غير المسيحيين. أما اللجنة ذاتها فقد أسسها البابا بولس السادس في عام 1964, أي أثناء انعقاد المؤتمر الثاني للفاتيكان (1962-1965) أماالبابا يوحنا بولس الثاني فقد دعم هذا النوع من الحوار إذ أعلن التزامه به في عام 1979 باعتبار أنه هو نفسه محب للمؤمنين في كل الأديان. ولا أدل علي ذلك من أنه قد زار المغرب في 19 أغسطس من عام 1985 بناء علي دعوة من الملك الحسن لمخاطبة 80000 مسلم. وكانت هذه الزيارة هي الأولي من نوعها. وامتد الحوار بعد ذلك إلي الرهبان البوذيين والرهبان الكاثوليك في سياق معيشة مشتركة لمدة عدة أسابيع. ولم تكن الغاية من هذه المعيشة أن يتحول أحد الفريقين إلي الفريق الآخر بل أن يكتسب كل منهما خبرات الآخر من حيث أسلوب العبادة وأسلوب الصلاة وأسلوب الحياة, بل امتد بعد ذلك إلي الحوار مع مجلس الكنائس العالمي مرة كل عام.
ومع ذلك كله فثمة صعوبات واجهت حوار الأديان ويمكن إيجازها في خمسة أنواع. النوع الأول: توتر عقائدي بين الإرساليات المسيحية وبين دعوتها إلي احترام عقائد غير المسيحيين. النوع الثاني: الانزلاق إلي اعتقاد زائف وهو أن الأديان كلها متماثلة, أي لا فرق بين دين وآخر. النوع الثالث: تخوف أصحاب الأديان غير المسيحية من الدوافع الكامنة في الحوار والتي تتلخص في نية التبشير بالمسيحية. النوع الرابع: ومثاله البوذيون الذين يتصورون أن دينهم يدخل في علاقة عضوية مع ثقافتهم وبالتالي تكون نظرتهم إلي المسيحيين باعتبارهم أجانب أو مواطنين من الدرجة الثانية. النوع الخامس: بزوغ الأصوليات الدينية في عام 1979 والتي تتوهم أنها مالكة للحقيقة المطلقة الأمر الذي يترتب عليه إرهاب من يخالفها إلي حد التهديد بالقتل وهو ما يقال عنه إنه إرهاب.
أغلب الظن أن هذه الصعوبات الخمس قد دفعت البابا يوحنا بولس الثاني إلي إصدار قرار في أول يناير من عام 1983 بتأسيس المجلس البابوي للثقافة المكون من اثني عشر مستشارا وكل مستشار مختص بإقليم جغرافي أو لغوي. وفي أول اجتماع لهذا المجلس أعلن البابا أن ثمة علاقة عضوية بين الثقافة والرسالة المسيحية لثلاثة أسباب: السبب الأول أن الثقافة وسيلة الإنسان لتحقيق إنسانيته. والسبب الثاني أن الثقافة لها تأثير علي الحياة الدينية للمؤمنين. والسبب الثالث أن علي المسيحيين فهم ثقافات الآخرين لتدعيم التفاهم الثقافي.
وبعد ذلك انعقد أول مؤتمر لهذا المجلس في جامعة نوتردام بأمريكا في نوفمبر من عام 1983 تحت عنوان الكنيسة والثقافة.. خبرة أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية. وفي 16 سبتمبر من عام 1986 استلمت خطابا من الأب هيرفي كارييه أمين عام المجلس البابوي للثقافة ينبئني فيه بأن الكاردينال بول بوبار رئيس المجلس قد وافق علي عقد مؤتمر مشترك بين المجلس والجمعية الفلسفية الأفروآسيوية التي كنت في حينها مؤسسها ورئيسها تحت عنوان الثقافات في صراع أم حوار وقد انعقد هذا المؤتمر في نوفمبر 1990, وأهم ما جاء في الكلمة الافتتاحية للكاردينال بوبار: إننا اليوم أكثر من أي يوم مضي في حاجة إلي الكشف عن عوامل الصراع بين الجماعات البشرية, وإلي البحث عن حلول تستند إلي العقل والعدالة والحب الأخوي خاصة أن مصر مازالت حتي يومنا هذا نموذجا أصيلا لملتقي الثقافات بين الغرب والشرق.
وفي نوفمبر من عام 1991 تسلمت دعوة هي الأولي من نوعها للمشاركة في الملتقي الإسلامي- المسيحي الخامس الذي كان ينظمه الدكتور عبدالوهاب بوحديبه والذي فيها أعلن موافقته علي أن من حقي نقد الحوار الإسلامي المسيحي باعتبار أنه بلا جدوي, وقد كان. وإثر انتهاء ذلك الملتقي أعلن بوحديبه أنه الملتقي الأخير في سياق الحوار المسيحي الإسلامي وتواري بعد ذلك الكاردينال أرنتز ومعه تواري حوار الأديان.