لا ينفك ابني الصغير يرسل لي فيديوهات من تطبيق تيك توك, يأتي إلي ليحكي الأخبار التي شاهدها في فيديوهات الفيسبوك, ينفعل بقوة وهو يتحدث عما حدث للفلسطينيين في غزة, ظل يتابع الأخبار وقت العدوان حتي اطمأن قلبه بسريان وقف إطلاق النار, وهذا حقا كان أبعد من خيالي!
بحكم عملي واهتمامات عائلتي فلدي أبنائي دراية معقولة بالشأن العام, بما يناسب أعمارهم, خاصة قضايا الوطن والقليل من الشأن العربي, ولديهم تعاطفهم مع فلسطين بالطبع, لكن أن يحصل ابني الصغير علي كل هذه المعلومات في فترة قصيرة هو أمر مدهش بالنسبة لي, وهذا نتاج لما كان في القدس من محاولة اغتصاب أرض حي الشيخ جراح, لكن الأكثر تسببا في البهجة بالنسبة لي, هو أن يحدث ذلك في وقت استعادت فيه مصر مكانتها كداعمة للحق العربي, نبراسا لأمتها العربية ومدافعة عن الحق الفلسطيني, لقد كان كل ما حدث خلال الأيام الماضية درسا مكثفا في الوطنية والقومية والجغرافيا والتاريخ, درس لن يحتاج أبناؤنا لدراسته في المدارس, ولن نخشي عليهم من ضياع الذاكرة إذا تعلق الأمر بأمن الوطن وكرامة شعوب العرب.
حدث ذلك بعد جرعة مكثفة من المشاعر الوطنية, والإحساس بالفخر والعزة, بالأمن والأمان, صاحبها جرعة توعية قوية, خلال شهر رمضان كان بطلها الدراما, وكأن القدر أراد أن يكافئ شعبا أحب بلده حتي النخاع ودافع عنها فلم يتركها لتضيع وسط طوفان اجتاح المنطقة وعصف بكثير من الثوابت, أراد القدر أن يبارك وطنا أحبه أبناؤه وأخلصوا لأجل حمايته والدفاع عنه, وإعادة بنائه.
الحظ.. والكثير من الحظ, بل لنقل الكثير من الرزق, رزقا وهبه الله لبلادنا, فتعود بعد السنين العجاف لتتصدر مشهد أمتها العربية, ولتؤكد لأبنائها أنهم آمنون فيها, وينتظرهم مستقبل يليق بتاريخهم, في الوقت الذي تنهض فيه الأمة المصرية كمارد جبار استعاد قوته التي أراد الأعداء هدرها, ولا يزالون يتربصون بها لكن هيهات, فمصر تعرف أعداءها جيدا, وتؤمن بقدراتها إلي أبعد مدي.
مصر هي تاج العلاء في مفرق الشرق, كما قال الشاعر العظيم حافظ إبر اهيم وتغنت كوكب الشرق أم كلثوم:
أنا تاج العلاء في مفرق الشرق
ودراته فرائد عقدي
أنا إن قدر الإله مماتي
لا تري الشرق يرفع الرأس بعدي
ما رماني رام وراح سليما
من قديم عناية الله جندي
دائما ما كنا نخشي علي الأجيال الجديدة من فقدان الذاكرة, هم لم يعيشوا ما عشناه, كان كل شيء حولنا يساهم في بناء وعي وطني وقومي, أهلنا والتاريخ لا يزال حاضرا في أذهانهم, الدراما, الصحافة, الإذاعة, التليفزيون, رموزنا العظيمة من مبدعين في كل المجالات, ثم جاءت سنوات عجاف انتظرنا فيها وقوع المقدر.. وقد كان, لكن الله أنقذنا, كافأنا علي حسن النوايا وإخلاص النية, جعل لمصر رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه, فجاء الخروج مما كان قد حيك لنا, لتقف مصر الآن مرفوعة الرأس, ناهضة الهمة, تتزعم أمتها العربية وتتخذ مكانها في المقدمة كالعادة, تقف نصيرا للشعب الفلسطيني وهي تبني وتعمر وتدافع عن مياها.. أي خير وفير ما نحن فيه, وأي مجد!
نحن لا نخشي علي أبنائنا الآن, لا علي مستقبلهم ولا علي ذاكرة الوطن التي سنتركها لهم, فقد حضر التاريخ أمامهم ليتعلموا في لمح البصر كل ما كان قد أريد لهم ألا يعرفوه, وهم الآن شهود علي تاريخ جديد, ومجد يصنع سيؤسس لعظمة مصر دهرا كاملا.