هذا الوجع الدائم في قلب مصر لن يداويه الاحتفال المبهر في الجمعة الأولي من أبريل من كل عام
مع شهر أبريل من كل عام نحتفل بيوم اليتيم وتقوم الدنيا لتحتفي بهؤلاء الأطفال وتنهار الوعود والهدايا والتبرعات والكرنفالات ويخصص الإعلام ساعات طويلة لبث المهرجانات ويلتقط المسئولون والمهتمون بالحدث الصور التذكارية مع أطفال دور الرعاية الاجتماعية ثم سرعان ما ينتهي اليوم وتتبخر الوعود ويعون كل منا إلي مكانه وكأن شيئا لم يكن, وتقعد الدنيا التي وقفت لعدة ساعات, هذا المشهد يتكرر كل عام وكأنه copy بنفس تفاصيله وربما نفس الوجود باستثناء وجوه المسئولين التي تتغير بحكم المتغيرات السياسية.
تشير التقديرات إلي أن مصر بها حوالي 30 ألف دار رعاية اجتماعية للأطفال بينما تؤكد التقديرات أن عدد الأيتام يتراوح ما بين 3% و 5% من عدد السكان, أي يصل عددهم إلي 4 ملايين يتيم, يعيش عدد منهم في دور الرعاية بينما يسكن عدد كبير منهم العراء وهم ما يطلق عليهم أطفال الشوارع.
وقد أشارت دراسة رسمية صادرة عن وزارة التضامن الاجتماعي في عام 2017 إلي أن عدد الأطفال الذين ليس لديهم مأوي في مصر يبلغ حوالي 16 ألف طفل, وأن أغلبهم يتمركز في الحضر بنسبة تصل إلي 88%. وأغلب أطفال الشوارع من الذكور بما نسبته 83%, وهناك حوالي 87% منهم أصحاء والبقية من ذوي الإعاقات.
بينما أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة أن عدد أطفال الشوارع في مصر يصل حوالي مليوني طفل! وهو رقم يقترب مما صدر عن مؤسسة حكومية رسمية, هي الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء, في دراسة له عن عمالة الأطفال, حيث قدر عدد المتسولين بالشارع منهم, كما الذين يعملون بالورش والمصانع بحوالي 1.6 مليون طفل, وإن كان بعضهم ليسوا أطفال شوارع بالمعني الذي ينطبق عليه التعريف الرسمي, فيرجح أن عددا كبيرا منهم بلا مأوي.
هذا الوجع الدائم في قلب مصر لن يداويه الاحتفال المبهر في الجمعة الأولي من أبريل من كل عام.. وهذا العار في جبين الوطن لن يمحي بمجرد تقديم الحلوي والهدايا والتبرعات لضحايا أبرياء في يوم واحد ووحيد كل عام بل يتطلب الأمر خطة جادة لإعادة تأهيل ملايين الأطفال نفسيا واجتماعيا واقتصاديا ليتحولوا إلي جزء فاعل في المجتمع وذلك من بعد إزالة آثار العدوان النفسي من داخلهم. أتذكر هنا ونحن نحتفل بهذا اليوم مبادرة عظيمة واستثنائية للفنان الكبير سليم سحاب حين قام في عام 2014 حين أطلق مشروع عظيم لفريق كورال وأوركسترا من بين أطفال ـ الشوارع ـ ودور الرعاية الاجتماعية, وأشار سحاب حينها إلي المشروع قد بدأ بالاستماع إلي 800 طفل وطفلة من دور الرعاية والجمعيات الأهلية, واختيار 70 موهبة غنائية لتكوين كورال غنائي في مرحلة المشروع الأولي, لافتا إلي أن المرحلة الثانية تهدف لتكوين أوركسترا أطفال مصر, وذلك من خلال زيارة كل المحافظات المصرية لعمل الاختبارات واختيار براعم أوركسترا وكورال أطفال مصر والذي يأمل أن يصل إلي 10 آلاف طفل وهذا ما تم بالفعل وبنجاح كبير.
وقد كنت سعيد الحظ أن بادرت في عام بمبادرة شبيهه في محافظة البحيرة بدعم كبير من المهندسة نادية عبده محافظ الإقليم حينذاك التي آمنت بالفكرة وتبنتها بقوة ووقف بجانبها حتي خرجت للنور وزارها المايسترو سليم سحاب للتعرف علي تلك التجربة والاستماع لمواهب تم اختيارها بعناية وتدريبها جيدا وقد عملت المبادرة تلك علي تأهيل هؤلاء الأطفال نفسيا واجتماعيا بقدر الإمكان.
لكن للأسف شأن معظم الأمور في بلدنا فقد تغير المسئول التنفيذي وجاء محافظ آخر لم يعط أي اهتمام بالأمر رغم مطالب الأطفال وصرخاتهم وتوسلاتهم بألا تتوقف المبادرة التي أعادت لهم الإحساس بالحياة وضخت فيهم طاقات هائلة مبدعة وخلاقة سواء في الغناء أو الرسم أو الرياضة, لكن الصرخات لم تجد آذانا صاغية بل قوبلت بتجاهل مثير للدهشة, ولعل التفسير الوحيد وراء هذا أن المسئول الجديد لا يريد أن يستكمل مشروعا ـ حتي لو كان إنسانيا ـ يحسب علي سلفه.
أتذكر ذلك ونحن في شهر أبريل ـ شهر اليتيم ـ وأعيد الإلحاح مجددا دون ملل أو يأس بأن هؤلاء هم ضحايا إهمالنا ووصمة في جبيننا جميعا.
كل عام وكل يتيم بخير.. وكلنا أمل أن يأتي اليوم الذي لا نجد فيه طفلا يلتحف السماء أو يسكن فوق رصيف أو يسير عاريا جائعا. فلا شيء أقسي من ذلك.