التخلي والترك, الفقد, المرض, ثلاثي الصدمة التي تنتابنا حينما نفقد الأحباء الذين نستند إليهم أعمدة خرسانية في حياتنا, إنه ثلاثي الوجع المر, حينما نصير ضعفاء, بسبب المرض أو الشيخوخة, فنتلفت حولنا لنجد مساحة فارغة ممن نبحث عنهم, وإذا بهم قد تركونا رمادا لحريق القلوب, وعصارة لحسرة الوحدة, قصة تتكرر بشكل شبه يومي, بعدما سيطر علي العالم المبدأ النفعي,فالكل يفتش عن إشباع ما تطلبه ذاته والآخر غائب عن الحسبة, والمعادلة دائما مختلة لصالح الأنانية, أميرة إثبات حي علي اختلال المعادلة, علي الحضور الطاغي للمصلحة علي حساب المبادئ الإنسانية الأصيلة المستحقة كواجب علي البشر تجاه بعضهم البعض.
تقول أميرة -بلهجة صعيدية معجونة ببساطة النشأة-:عندي 27 سنة, وست إخوات أربع بنات, ووالدين واحد منهم متجوز وفي حاله والثاني مدمن وخارب البيت, أبوبا مات من سبع سنين, كان شغال حارس جنينة, في الصعيد وأنا مريضة مش هاتجوز خالص!!
لفت نظري تعبريها بخصوص الزواج فسألتها:ليه بتقولي كده؟ جاء الرد محبطا جدا وقالت:هابتدي لك الموضوع من الأول, أبويا كان شغال في بلد عربي, وكنا مستورين جدا, وعايشين في الصعيد, لكن مالناش حد, فقلنا نمشي من الصعيد, ولما أبويا وصل من برة مصر, وقال هايستقر سيبنا الصعيد وجينا القاهرة, وأخدنا سكن ولقي شغل حارس, تاني يوم استلامه للشغل وهو راجع البيت خبطته عربية ومات. كانت صدمة كبيرة للكل.
بعدها حصل لي حالة إغماء ولما فقت حسيت بزغللة في عيوني وجسمي مش شايلني وقعت أخدوني المستشفي ما كانوش عارفين يحزنوا علي إللي مات ولا علي بنتهم عدي الوقت وحالتي مش بتتحسن لقيت روحي مجرد حتة لحم بيشيلوها ويحطوها لاقادرة أمسك حاجة بإيدي ولا عارفة أتحكم في عضلات جسمي ودخلت في مرحلة الحفاضات لأني ماقدرش أمسك نفسي علشان أروح الحمام.
بدأت رحلة الفحص الشامل, واكتشفوا أن مشكلتي هي ارتخاء العضلات, وحصلت مضاعفات شديدة, في الوقت ده كنت مخطوبة, لما خطيبي شافني في الحالة دي طبعا فك الخطوبة, أكيد عنده حق وأنا عذرته وماكنتش موجوعة منه لأنه شاف حاله بس كنت موجوعة من هروبه مني, وأنا في عز المرض, من تخليه عني كإنسانه يعرفها حتي لو مش هايتجوزها, وأنا في ظروف موت أبويا وإخواتي الرجالة واحد بعيد والثاني مدمن, وأنا والبنات وأمنا بطولنا, التخلي وجعني, شفت الدنيا سودة فقدت أبويا وخطيبي وصحتي في وقت واحد…القهر والحسرة كانوا أكثر قسوة من المرض ومن حزني علي رقدتي.
بعد مرور الصدمة كان لازم أشوف صحتي, وفعلا الدكاترة وجدوا الحل وهو حقن البلازما ورجعت أقف تاني واستغنيت عن البامبرز, والدنيا رجعت طبيعية والأمل رجع لحياتي واتخطبت تاني, الفلوس إللي كانت معانا وإحنا مستورين أخذنا بيها السكن, والباقي عشنا بيه الفترة إللي بعد موت أبويا, ومع مرضي اضطرت أمي رغم سنها الكبير إنها تخبز العيش وتبيعه, علشان نقدر نكمل من غيرما نمد إيدنا لحد والكنيسة ساعدتنا في نص علاجي, طبعا ماحدش مننا أصلا مكمل تعليمه.فمفيش حد قادر يشتغل شغلانة تسد تكاليف العلاج إللي بتعدي ألفين جنيه في الشهر,مع لوازم العيشة الأساسية مع أخ مدمن بيهجم علينا كل يوم والثاني يأخد إللي معانا ويضربنا البيت مولع علي طول كان بياخد حشيش وبعده كده حالته اتدهورت وبقي ياخد كل حاجة حتي البودرة,مانعرفش بيجيب فلوسها منين, لكن أي حد ممكن يتصور المدمن بيعمل إيه في أخواته البنات, الخلاصة هو لا منه ولا كفاية شره وإخويا الكبير بعيد عننا علشان خايف علي عياله ومراته منه, وبيساعد بـ200 ج في الشهر دول هم قدرته طيب نعمل إيه وإحنا خمس ستات؟
المهم كل ده كان بيعدي, وعمري ما فقدت الأمل في الحياة طول السنين إللي فاتت وحالتي اتحسنت واتخطبت تاني وبسبب الظروف المادية أهملت في العلاج, ولما أهملت الدور رجع لي تاني قدام خطيبي الجديد, وإللي حصل مع القديم اتكرر مع الجديد بنفس التفاصيل ورجعت للتعب ورجع لي تاني الأمل لما خفيت من جديد وأصبحت حياتي سلسلة من نوبات المرض, والتخلي والخطوبات والفك اتكرر الوضع أربع مرات.
بعد آخر مرة الأمل إللي كان جوايا مات, أدركت أن مفيش حد هايتجوز واحدة لو ماخدتش العلاج هاتكون جثة في السرير,عرفت أن الجواز شركة يلزمها اتنين قادرين يشيلوا مع بعض مش يشيلوا بعض,ماليش نصيب يكون لي حياة وشركة وبيت زي بقية البنات, لكن علي الأقل محتاجة حد يضمن لي توفير علاجي كل شهر, محتاجة بس أعيش الحد الأدني من الكرامة ماحتاجش حد يحميني ولا أضطر أني أستخدم حفاضات,محتاجة أحسن إني مش تحت تهديد كل إللي المشاعر إللي فاتت لو العلاج أتقطع.