للمسافات سحر مبهر, وكلما كانت المسافة علي بعد مناسب من عواطفك, كلما زاد الإبهار واتسعت مساحة الأمان, وارتفع فوق حدودها جدار الاحترام النابع من قناعات ومبادئ صادقة, حدودها التي تبقيك دائما داخل المسافة الآمنة, وتبقيه دائما خارجها, فتسمح لك بإطفاء النيران الصديقة, وصد الطاقة السلبية. والاحتفاظ بحالة الشغف, حدود بغير سدود, فغباء السدود قد يؤدي للانهيار وإغراق كل ما تم تشييده. لأن البعض يسحب التقدير والاحترام مع كل خطوة اقتراب وكأنها حواجز يقتضي التودد إزاحتها,فتسقط الحدود, ويتلاشي الاحترام ويغيب التقدير المعلن والخفي, وتغيب معه كل عاطفة نشأت علي أشلاء الاحترام.
للأسف هذا ما يحدث في العديد من العلاقات الإنسانية, خاصة الزوجية,فالزوج والزوجة يتصوران أن سقوط الحدود يعكس مزيدا من الحب, غير واعين أنه بينما تهدم الحدود تشيد مكانها السدود, بسبب غياب الاحترام.
وقعت نورا في ذلك الفخ اللعين, تركت حدودها مفتوحة قبلت الإهانة من زوجها, بشكل منتظم لم تتخذ موقفا يحمي حدودها ولو بالصمت, كانت هي الطرق الذي يتنازل دائما, عاشت معه خمسة عشر عاما حتي قررت الانفصال لتحيا لابنتيها بعيدا عن الضرب والشتائم والإهانات التي لا تنقطع.
حينما سألتها عن سبب أفعال الزوج, ربما يكون مدمنا, أجابت هو فعلا مدمن لكن مش مواد مخدرة, مدمن الغرور, والعجرفة, مدمن للشعور بالنقص, كل كلمة أو تصرف يعتبرهم موجهين ضده, لايمكن يغلط نفسه أبدا, دايما هو علي صواب, وأنا كلي أخطاء الانتقاد واللوم المتواصل علي كل شيء, مفيش كلمة واحدة حلوة, وكل ده احتملته.
لكن لما فقدت الإحساس بالأمان معاه, قررت أمشي علشان احمي بناتي من العيشة وسط الجو الملوث طول الوقت, بعد ما اكتشفت خيانته, سامحته بدل المرة تلاث,لكن ماقدرتش أسامح في الرابعة وفضلت أمشي بدون فضايح ولا حتي فتحت ملف كنسي علشان التطليق خفت علي سمعة بناتي إللي هايتقال عنهم إن أمهم مطلقة وساعتها ماحدش بيكون عارف الحقيقة فين ومين الطرف الخاين وأنا مش هاتجوز تاني, يبقي أرفع قضية؟.
زواج نورا مثال لبعض الرجال الذين لديهم شعور بالنقص لأسباب قد تعود لطفولتهم أو أسباب لظروف وصدمات وقعت في حياتهم, لكن في النهاية يجني الواحد منهم علي شريك حياته, وكلما قبلت الزوجة هذا الوضع, متعللة بالحب والعشرة والأبناء كلما انهارت حدود أمانها مع الزوج, وتحت دعوي الكرامة ورد الكرامة الإهانة والخيانة, يتحول الحب إلي كراهية,مهما حاول الطرف الذي أمعن في تكسير الحدود أن يخفيها لا يستطيع أبدا, تقفز من عينيه من وجهه من نبرات صوته ضغينة غير واعية يراها الجميع إلا هو, ويستمر في تحطيم ما تبقي من حدود فيعبر المسافات ويتمكن من تهشيم رأس من حطم الحدود ليصل إليه حبا حتي يصل إليه تدميرا.
نورا التي تعمل مدرسة في إحدي الحضانات وتتقاضي1200 جنيه, تركت زوجها بعدما قررت أنها لن تتنازل عن حدودها لصالح شفائه من إدمان إهانتها وإسقاط مشاعره وأفعاله المضطربة عليها, رحلت عنه, ربما يتغير لكنه أبدا لم يتغير حتي طرق الشباب باب الابنتين, الكبري عمرها الآن 22عاما والصغري 18عاما.
وحينما قررت والدتهما ترك زوجها والانفصال عنه ساعدها الأهل علي الاستقلال في سكن, ولم يكن في وسع أسرتها ما تفعله أكثر من دفع الإيجار فوالدها متوف, والدتها أرملة لا دخل لها سوي معاش بسيط, لديها شقيق يحيا في محافظة نائية ولاتسمح له الظروف بمساعدة منتظمة والآن وقد أوشكت الابنة الكبري علي الزواج, لاتجد نورا من يشاركها معصرة الوجع التي تعبر فيها كلما اقترب موعد الإكليل, خاصة وأنها ذهبت للزوج العنيد عند إتمام الخطبة فرفض المشاركة في أي تكاليف ليس فقط لأنه لايملك لكن لأنه مازال علي عناده, طالبا منها دفع كلفه قرارها بالانفصال مهددا إياها إذا ألحت عليه بأن يكشف ستر انفصالها أمام أهل العريس.
حينما روت لي نورا تفاصيل تهديده, شعرت بخيبة الأمل في الأبوة المهدرة, التي لم تفرق بين علاقة الزيجة وعلاقة الأبوة, وأيقنت أن نورا كانت علي صواب في قرار الانفصال فقد فعلت ماعجزت عنه زوجات كثيرات عشن الحياة مدفونات في عذاب الإهانة والوجه بسبب أولئك الأزواج الذين أتقنوا عبور الحدود, وما هم إلا مهاجرون بلا وطن, ضلوا الطريق إلي نفوسهم, فتاهت منهم فإذا تنازلت عن حدودك مقابل أن يستوطن أحدهم قلبك لا تلومين إلا نفسك.
يا صديقتي كل الأراضي بعد الوطن ملاجئ أوترضي أن يحتل فؤادك لاجئ تسلميه مفاتيحه وتستأمنيه علي جواهره, يقتات عليها إلي حد الشبع والتعافي ثم يغادر فؤادك إلي ملجأ أفضل حينما يجده؟ فلا كنت الوطن الأم ولا صرت أرضا للهجرة الأخيرة فقط كنت محطة عبور لا أكثر ولا أقل فيا عزيزتي أولئك يستنزفون رغبتنا في الحياة, ويسكبون الشغف خارج أرواحنا؟ ثم يتركوننا نتألم ويبحثون عن ضحية أخري, فلا تتنازلن عن مسافتكن الآمنة لأحد, لأن المسافات الآمنة تحافظ علي الاشتباك الإيجابي.