كانت جدتي -رحمها الله- فصيحة اللسان, تشغلها علاقات الناس بعضهم ببعض, فتستدعي الأمثال الشعبية للتعبير عن ماهية كل علاقة, ولأنها سيدة عجوز انصب تركيزها علي علاقة الابنة بحماتها والعكس, والمثل الحاضر دائما: جوزت بنتي لابني الوش وش بنتي والقفا قفا مراة ابني, في إشارة إلي الموقف المسبق لزوجة الابن من والدة زوجها مهما كانت محبتها أو قرابتها, وفي إشارة أخري إلي الرغبة في الاستقلال يقول المثل الشعبي: أنكوي بالنار ولا تقعد حماتي بالدار, لكن لم تذكر جدتي قط موقف الحماة من زوجة ابنها في الأمثال التي تلتها علي مسامعنا صغارا. كانت قناعتي الشخصية دائما أنه ما من قاعدة ثابتة في العلاقات الإنسانية, والأمر يعود دائما لشخصية الطرفين, وأن المحبة لا تسقط أبدا, إلي أن زارتني سماح.
تزوجت سماح في صعيد مصر, منذ 17 عاما, عاشت في بيت العائلة, كانت صغيرة للدرجة التي لم تمكنها من التفريق بين الخنوع والأدب, تحفظ تلك الأمثال الشعبية عن ظهر قلب, وتعي معناها, لكنها كانت حالمة, لم يكن الأمر سهلا علي فتاة الصعيد الحالمة بحماية رجلها, أن تجد نفسها تحتاج الحماية منه, وانكسر الحلم في روحها, عاشت سماح بين والديه وإخوته تتجرع المكايدة يوما بعد يوم, حتي أن حماتها كانتتعيرها بالطعام, فامتنعت سماح عن الأكل لفترة كادت خلالها أن تفقد حياتها.. فاق جبروت حماتها كل ما نراه في الأفلام العربية, ونسمع عنه في القصص الشعبية, لم يكن بجوارها من يدعمها سوي حماها, أما أسرتها الفقيرة جدا فقد كانت مكسورة النفس إلي الحد الذي أصابهم بالسكتة الضميرية تجاه ابنتهم.
ودارت الساعة, وأنجبت سماح طفلين تصورت أنهما يمكن أن يغيرا من الوضع شيئا لكن لم يحدث, ونضجت سماح بعد أعوام قليلة, ذاقت فيها العلقم, من قسوة وغيرة والدة زوجها تارة, ومن الشذوذ الجنسي لزوجها تارة أخري, فقررت الرحيل, خرجت ولم تعد, ذهبت إلي أهلها لكنهم أعادوها, خشية الفضائح وخروج المرأة من بيت زوجها عار في نظرهم, حينما أعادوها اتهمتها حماتها بالفجور, لكن حماها وقف إلي جوارها, فاشتدت غيرة حماتها منها, وزادت في الاتهامات, حينها كان لعائلة زوجها منزل في القاهرة, فخيرته إما أن ينقلها من البلد بأكملها وأما أن يتركها ترحل بلا رجعة, ولأول مرة تعرف الفتاة الصغيرة كيف تمارس ضغطا من أجل استمرار الحياة, رضخ الزوج, واضطرت والدته بضغط من زوجها للموافقة, وانتقلت سماح وأسرتها للقاهرة واستقلت في سلام.
لكن الامر لم يمر هكذا فالزوج يعمل باليومية مبيض محارة, يعمل يوما ولا يعمل عشرة أيام, بخيل, شاذ جنسيا, ولم تعلن لأحد فالخجل يعتصرها, والضرب المبرح ينتظرها, والغثيان والشعور بالقرف يختزل شبابها في نوبات قيء متتالية, تخرج منها هزيلة عليلة فلمن تشكو حالها؟ كان لابد من مال لتنفق علي الأبناء الذين صاروا ثلاثة, فخرجت للعمل, باليومية في بيوت القادرين, ونجحت في تكوين شبكة معارف تمكنها من تثبيت دخل معقول, ورغم ما تعانيه علي المستوي الخاص, وهي الوحيدة في غربة البلد وغربة النفس, إلا أنها تخلصت من جبروت حماتها وهذا خفف عنها كثيرا, إلي أن حدث ما لم يكن في الحسبان, وقررت العائلة كلها الانتقال من الصعيد إلي لقاهرة, والسكن في نفس المنزل, بعد مرض حماها وقدومه للقاهرة للعلاج, ودخلت سماح في الدوامة من جديد, وكل ما يشغل بالها كيف ستخرج لعملها, سيقولون إنها خادمة في المنازل بالأجرة, سيتهمونها في شرفها من جديد, لن ينصفوها علي حساب ابنهم العاطل الشاذ, هكذا كانت تروي لي سماح باكية.
وبدأت دوامة القسوة من جديد, تقول سماح: هزموني في كل حاجة, حماتي بهدلتني, خصوصا بعد ماجوزها مات, عيالي كبروا ومصاريفهم زادت, واحد 17 سنة والتاني 15 سنة والتالتة بنت سنها خمس سنين, وأنا جاني انزلاق غضروفي من الخدمة في البيوت, لكن شغالة لأن مافيش حد يصرف علي العيال, ده نصيبي أعمل ايه, كان حمايا بيساعدنا من ورا حماتي, لكن الراجل الطيب مات من أربع سنين, وتغولت حماتي علينا, واتسدت السكك, رحت للكنيسة تساعدني, فبعتوا لي خدام يعملوا بحث اجتماعي, طبعا حماتي شافتهم وكانت مصيبة, قالت إني رايحة أشحت, علشان أبرر المشي البطال, وأني لازم أعيش بإللي جوزي يدهولي, طب إزاي؟ وإيه يكفي العيشة والتعليم والعيال التلاتة وهو مش بيشتغل؟ نفسي أعرف الست دي بتعمل معايا كده ليه؟ مصممة تكرهني في الحياة كلها ليه؟
وطردت حماتي الخدام, وكانت فضيحة ومن وقتها مادخلتش الكنيسة تاني لا أنا ولا عيالي من الخجل, ابني الكبير اتعقد ومانفعش في مدارس, نزل اشتغل مساعد استورجي في دهان الموبيليا, أتحايلت عليه يكمل رفض قال لي إللي زينا مالوش علام, إللي زينا, يشتغل علشان يقدر ياكل وبس.
كانت سماح خائفة أن نرسل إليها باحثا اجتماعيا, فوبيا البحث تطاردها, ولم يكن لها طلب سوي أن تتمكن من استكمال تعليم أولادها, فلا فائض لدروس وكتب وملابس ورعاية, لا فائض للعلم, لا فائض إلا للنكد المستمر, حتي أنها تفكر بالترتيب مع ابنها الأكبر في ترك المنزل تماما, لتستقل هي وأولادها بعيدا عن جبروت حماتها واستغلال زوجها, وإهاناته وضربه المبرح له, وهكذا أضافت سماح لرصيدي من جدتي العجوز خبرة تعوزنا القناعة بها, أن الجبروت لا موطنله سوي قلوب القساة, حماة كانت أو زوجة ابن, القلب هو ترمومتر القسوة بغض النظر عن الصفة. الغيرة طاردة, والقسوة طاردة, والاستغلال بكل صوره طارد وكريه, ومن يزرع قسوة يحصد وحدة.
ربما لا تكون سماح الأكثر عوزا, لكنها لا تزال في شبابها, تكد وتعمل ما عليها, لكنه لا يكفي, تحتمل المصاعب منذ سنوات, لكن الحياة صعبة, الحلم بتعليم الأبناء مباح ومشروع, أخشي عليها من اليأس إذا ما انسدت أبواب الأمل في وجهها ولم تعرف طريقا لتربية الابن والابنة الصغيرين, أخشي عليها من الشارع, فالشارع مرعب فهل نتركها ليفترسها؟!
استغاثة قبل موسم السيول
من منا لا يتذكر سيول مارس الماضي؟ وما فعلته بمنازل الفقراء؟ من منا لا يذكر يوم الخميس 12 مارس 2020, حينما دخلت مصر في حالة من سوء الأحوال الجوية سميت شعبيا وإعلاميا بـ سيول التنين, وتم تصنيفها الأعنف منذ سيول عام .1994
تم تعطيل حركة القطارات ومترو الأنفاق وبعض طرق المرور, وحاولت الحكومة تدارك أخطاء الماضي وما حدث في سيول أكتوبر 2019, فكان القرار الأول, تعليق العمل الحكومي والخاص والدراسة المدرسية والجامعية, تمهيدا لإفساح الشوارع أمام أجهزة الدولة التنفيذية للتصدي للآثار المترتبة علي السيول, لكن الآثار تركت الشارع واحتلت أسطح المنازل, فدمرتها, وسقطت فوق قاطنيها, وتشردت عائلات بأكملها, كانت أشهرها عائلات منشية ناصر الذين أنهارت منازلهم تماما.
لكن بين الآمنين في منازل خرسانية, والمشردين الذين آوتهم منازل تعويضية من الحكومة بسبب ما تعرضت له منطقتهم بأكملها من انهيار, توجد فئة وسطي, غير قادرة علي الصراخ, فئة لا يسمعها أحد, انهارت أسقف منازلهم ولجأوا للمحليات فلم يكن بيدها شيء, رفعوا الأمر لرئاسة مجلس الوزراء الذي لم يرد حتي الآن, وها هي سيول الشتاء القادم علي وشك قرع حوائطنا, والاشتباك مع أسقف منازلنا, ولا مغيث.
ساعد باب افتح قلبك عددا ممن لجأوا إليه لإصلاح منازلهم, لكن الحال ما عاد هو الحال, المساهمات صارت أقل من الانفاق, فالغلابة علي منحني الصعود, يزيدون عدديا, لذلك تراجع الباب عن هذه المهمة, لكن وقفنا حائرين أمام حالة عم صبري ثابت رزق, 63 سنة كان يعمل نجارا, حتي وقت قريب, لكن السن والشيخوخة لهما أحكامهما. سقط سقف منزل عم صبري للدرجة التي لا يمكن أن يجلب عاملا علي مسئوليته لإصلاح ما أفسدته السيول.