في ليلة من ليالي الصيف الساخنة… قابلتها
كنت في شرفة ذلك المنتجع السياحي… الذي أهرب إليه كلما ضاقت بي الحياة وحاصرتني ضغوطها… أرتشف قهوتي وأمارس طقوسي المسائية المعتادة…. لمحت ذاك البريق الوهاج يسطع من عينيها الواسعتين الساحرتين التي لم أر في جمالهما قط عيونا في الشرفة المجاورة… فحملتني إلي ماض ليس ببعيد… إنها هي.. توأم روحي وصديقة طفولتي.
انتفضت من مكاني في لمح البصر غير مكترثة بالقهوة التي اهتزت بيدي من هول المفاجأة وأغرقت ساقي بلا رحمة…. وفي نفس اللحظة كانت هي قد اقتربت لأقصي درجة تقدر عليها وكأنها تقذف بنفسها في أحضاني…
حال بين التحامنا الحائط الفاصل بين غرفتينا… لكننا تعانقنا وبكينا حتي كدنا نسقط من شرفتينا وانتبهنا أننا قد شارفنا علي السقوط في غفلة اللهفة والحنين والأنين من فرقة السنين….
في لحظات كنا قد اتفقنا علي ارتداء لباس السباحة والتقابل عند البحر كاسرين كل قواعد المنتجع بمنع السباحة ليلا… فكلانا متمردتان وسباحتان ماهرتان…
وما هي إلا دقائق لم تكمل الربع من الساعة حتي كنا وجها لوجه… أمام ذلك البحر الذي طالما شهد طفولتنا وصبوتنا… براءتنا ومراهقتنا… انتصاراتنا وانكساراتنا…
أرتمت بحضني ولأول مرة أستشعر طعم هذا الحضن من أحد غير ابنتي الجميلتين… لأول مرة..
حضن أمتزج به الحب واللهفة والأمان والصدق والبراءة وازدراء كل ما هو قبيح….
لم ننب ببنت شفة… بل تشابكت أيدينا كما كنا نفعل منذ سنين وانطلقنا كطفلين نحو البحر الذي كان يتابع كل شيء بشغف فتتراقص أمواجه فرحا بلقيانا سويا معه لأول مرة منذ زمن طويل… فتح لنا أحضانه فارتمينا فيها بمنتهي الثقة التي صرنا نفتقدها ونحن نقترب مجرد اقتراب من أغلب البشر…
احتضنت عيناي عينيها الفاتنتين…. التي طالما عشقت الإبحار فيهما لصدقهما… وطالما قرأت كل ما تود قوله فيهما دون أن تحتاج أن تتكلم…
لكني وجدت ما زلزل كياني… وأربك حركتي حتي كدت أفقد سيطرتي علي جسدي لوهلة وأنجرف مع أضعف موجة.
تمالكت نفسي واستعدت اتزاني ورسمت ابتسامة قهرا علي وجهي لا تشبه ابتسامتي الأولي قبل أن أتفحص عينيها… عرفت أنها مكسورة حزينة…
وما المشكلة؟!… قد يتراءي للقارئ لوهلة… كلنا مكسورون… كلنا حزاني… الحياة لا ترحم أحدا… وكثير من الكلام المشابه.
الحال هنا يختلف… حينما تجد الحياة النابضة تنقلب موتا… والنور ينطفئ… ومصدر الحب صار مخزن الحزن… ومنبع الرحمة صار مستقبل القسوة… لابد أن ترتجف هلعا…
كانت الحب الرحمة الحنان الإيثار الاتضاع… كانت.. وكانت .. منذ نعومة أظافرها.. ظنناها ملاكا وضل طريقه إلي الجنة فوقع بيننا… سميناها ذات القلب الذهبي ونحن في مرحلة الطفولة… كانت المصدر والمنبع والأصل لكل جمال وكل خير وكل فضيلة…. بالسليقة… ما كنا نجدها تفتعل شيئا من ذلك قط… فكانت كاللحن العذب يخترق أوصال روحك رغما عنك فتنتابك رعشة من السعادة غير المفهومة وغير المسبوقة… كانت كقبلة الحياة لمحتضر في لحظاته الأخيرة فتوهب له الحياة من جديد….
فتحت فمها الجميل ونطقت…. أعاني من الاكتئاب
تشابكت أيدينا للمرة الثانية بقوة وسبحنا إلي الشاطئ دون أن ننطق بكلمة وارتمينا فوق الرمال الناعمة وبدأت تسرد لي ما حدث معها منذ افترقنا…
وما إن ألقينا بجسدينا المبللين المرتعشين فوق الرمال الناعمة… التي كانت لاتزال تحتفظ بالقليل من دفء شمس النهار وكأنها ترأف بحالنا.. إلا واستلت علبة صغيرة كانت قد دفنتها في الرمال… وسحبت منها سيجارة رقيقة كرقة أصابعها البيضاء الجميلة… ومالبثت أن أشعلتها في اضطراب ملحوظ.. ورعشة يد لا تخفق عين في ملاحظتها.. حتي تحت ضوء القمر الخافت…. أفجعني كيف سحبت هذا النفس الطويل من الدخان بقوة لا تتناسب مع رعشة يدها الرقيقة وارتعاش جسدها الصغير…. بدت لي وكأنها تحرق ألما داخل نفسها, لا تلك السيجارة الهزيلة…. ألما بات ثقيلا متثاقلا, مبعثرا في كل ثنايا وجدانها ولن يقوي عليه سوي النار…
من أنت يا حبيبتي…. أأنت ذاك الملاك الساحر الذي طالما أبهر الجميع قلبا وقالبا… جوهرا ومظهرا… أم أنت مسخ منه…. يا نفسي ورفيقة الدرب أجيبيني من ذا الذي شوه كل ذاك الجمال القابع بروحك الحالمة… وجهك لايزال ساطعا كالقمر الذي ينير لنا ليلتنا ولكن عيونك مكسورة ونفسك كسيرة وروحك أسيرة.
دار هذا الحوار بخلدي وأنا أتفحص حبيبتي بل نفسي… أرمقها بنظرات الحب والشفقة… وهي تحرق سيجارتها بقسوة لم أعهدها قط فيها… وكأنها تحرق كل ما لم تستطع حرقه وقتما تجرأ علي حرقها… لم يطرف لها جفن ولم تتحرك عيناها الفاتنتان بل ظلت مقلتاها متجرتين شاردتين صوب الأفق البعيد… تركتها تحرق ما تحرق…. وكم وددت أن أحرق معها كل شيء… أجل كل شيء… وبلا رحمة… ولا شفقة…
مرت لحظات قليلة طويلة وكأنها دهر… وأنا أرمقها بعين دامعة وقلب يتصارع بداخله حشد من المشاعر المتناقضة المتضاربة… تتسارع للولوج خارجا في نفس اللحظة… فتحتشد عند بوابة القلب موصدة إياه وصدا عنيفا… فتبوء محاولة الولوج بالفشل الذريع… فلا تملك إلا أن تعود الهوينا من حيث أتت وتظل حبيسة القلب…. لأول مرة بحياتي أعرف معني الشلل… الشلل النفسي… حين تكبل روحك بداخلك من فرط حبك لشخص تراه يتهاوي أمامك ولا تدري ما أنت بفاعل… إحساس قاتل مميت… لا بل أسوأ وأقسي من الموت… وبمراحل.
أفقت من بركاني الخامد بصدري علي يديها تدفن عقب سيجارتها المحروقة في الرمال وكأنها تدفن ذكريات طالما أدمت مقلتيها بعدما أدمعتهما والتفتت بجسدها الجميل وأرسلت نور عينيها الكسيرتين صوب عيني وقالت وهي تبتسم ابتسامة تحول الجزر إلي مد… أتذكرين يا نفسي ماضينا….. أتذكرين الجنة…؟!
…. يتبع