كان الحديث بيني وبين الزميل الدكتور أحمد البهي عن الشعر العربي فإن من عادته أن يحدثني كلما لقيني عن الشعر وما عسي أن يكون قد استحدث فيه أو جد في نظرياته وعلي الرغم من أني لا أحب لنفسي أن تدركهاحرفة الأدب فأنني أجدني ثرثارا مع محدثي إن كان الحديث يمس الأدب أو يتصل به من قريب أو بعيد!
وكان حديثنا عنطرفة بن العبد الشاعر الجاهلي الذي مات شابا ولكنه مع ذلك استطاع أن يبعث فنه في كل عصر, وأن يحيي روحه لتمتزج في كل روح تعشق الأدب وتتذوق الفنون.
وقد مضينا في استعراض معلقته ومناقشة مذهبه في تناول الحياة واللذائذ وكان يومنا غائما مطيرا.
وفجأة سألني الزميل أن أكتب كلمة في الأدب لجريدة وطني, فأثرت أن تكون تحية إلي قراء الصحيفة الناشئة علي أن تكون مقالا أدبيا بالمعني الذي أراده الزميل.
واخترت أن تدور التحية المتواضعة حول اسم الصحيفة وموقعه من طائفة من الشعر العربي فقد تناول الشعراء الأقدمون والمحدثون في أشعارهم كلمةالوطن والحنين إليه, ولكنهم لم يلتقوا-في الأعم الأغلب-عند مدلول معين تستخلص منه تعريفا محددا لتلك الكلمة.
والمعروف من شعرهم أن مدلول لفظ الوطن يضيف ويتسع حسب ثقافة الشاعر ومدي فهمه للنظام الجماعي الذي ارتضاه العلماء المحدثون أو اعتداده بالنظام القومي أو القبلي كما كان شائعا عند الجاهلين والأمويين.
ونجد أن الشعر القديم قد عبر أكثر ماعبر بكلمة الوطن عن مكان النشأة وحلول القبيلة فالشاعر العربي حينما كان يهاجر منقريته إلي أخري في الجزيرة العربية نفسها محتاجة الحنين إلي ما هاجر عنه وقد لا يستطيع صبرا علي هذا الفراق الممض المرير.
ولهذا نقرأ من شعرهم:-
نقل فؤادك حيث شئت عن الهوي
ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتي وحنينه أبدا لأول منزل
وهذا ولا ريب ضرب من ضروب الوفاء ولون مستحب من ألوان الحنين لملاعب الصبا ومدارج الجداثة وهو وإن لم يكن حنينا إلي الوطن بالمعني الجماعي الذي نفهمه الآن إلا أننا نشعر أنه نوع رائع من الحب والانسياق النفسي الذي فطر عليه الإنسان ومن منا لايتحرق شوقا إلي مسقط رأسه مهما أصاب في غيره من نجاح وسعادة…؟
ولعلنا ندرك قيمة حنين ذلك العربي الذي وهب حبه مكانا كان قد درج فيه ما بين منعج وسلمي فهو يؤثره علي كل موطن, ويدعو له بالسقيا والرجاء:
أحب بلاد الله مابينمنعج
إلي وسلمي أن يصوب سحابها
بلاد بها حل الشباب تماتمي
وأول أرض مس جلدي ترابها وعسي أن نقدر الآخر قدره حين فدي وطنه بنفسه إذ رأي فيه خير مصطاف وأنضر من غيره ربيعا:
بنفسي تلك الأرض,ما أطيب الربا
وما أحسن المصطاف والمتربعا
والسر في هيامنا بالأمنكة التي نشأنا بها أنه تربطنا بها ذكريات عزيزة وكل ذكري من هاتيك الذكريات تتصل بموضع معين من المكان الذي ولدنا به وحيونا علي ترابه فلا جرم أن يكون لكل شبر منها ركن حبيب في قلوبنا ومنزل أثير في أنفسنا ووجداننا وإلي هذا يشير الشاعر بقوله:
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
ونحن نجد أمير الشعراء شوقي يبدع في هذا الحب إذ يقول:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
وبعد فإن اسموطني ينتظم لا مخالة في خواطرنا جمهوريتنا العربية المتحدة وينظم مع ذلك ما تهفو إليه مشاعرنا كأفراد من أوطاننا الصغري, فإن من يحن إلي ملاعب صباه ومسارح حداثته كان جديرا به أن يهتف في حرارة بوطنه الكبير وأن تحلو كلمةالوطن علي لسانه وتمجد في روحه بل وتتجاوب أصداؤها في كيانه,وترق أحاسيسه كذلك كلما سمع هاتفا يردد:
وطني…وطني
الدكتور عبد الرحمن عثمان