توحش الفقر, وحينما قرر التفاوض, خاض المفاوضات علي كل شيء, علي اسمك علي جسمك, علي هوية المحتاجين في أزمنة الضيق, وضع دستورا خاصا به لا يسري إلا علي بؤر الحرمان, ومواجعهم التي صارت سلعة تباع وتشتري برضاهم ورغما عن أنوفهم, يبيعون مواجعهم, يبيعون أعضاءهم, يبيعون أولادهم, يبيعون أسماءهم, وحينما يبحثون عن الثمن يتسرب بين أياديهم, فيعودون إلي المربع رقم صفر في قائمة الحرمان, هكذا عاش وربما سيموت علي حالة.
بطل قصتنا التي نشرناها منذ سنوات تحت عنوان إعاقة للبيع وتعيد نشرها اليوم بعد تدهور حال الأسرة. إنها نفس السطور التي تتضح مرارا لم تتغير نفس المشاعر لم تفتر, تجاه تلك الأسرة التي اعتادت النكبات ثم جاء وباء كورونا ليضيف نكبة لسلسلة نكباتهم, ويضع القرية التي تقطن بها الأسرة كاملة تحت العزل مع نهاية الأسبوع الماضي والحجر الصحي. إنها قرية المعتمدية بالجيزة.
فمنذ سنوات زراتنا شابة, لم نخطئ حينما وصفناها بأنها بسيطة إلي حد التراب, بريئة إلي حد السذاجة جاءت من المنيا لتحيا مع زوجها عادل, الذي يكبرها بعشرين عاما وروت كيف عاشت ببساطة وأنجبت ثلاثة أطفال وكانت راضية جدا كان يعمل سائقا لـتروسيكل يقوم بتوصيل بعض البضائع البسيطة يخرج من منزله في الصباح ليعود حاملا قوت أسرته وذات يوم خرج عادل ولم يعد في موعده.
بدأ القلق يدب في قلب زوجته, وحيدة تحيا معه لا عائلة تسأل عنهما ولا جيران مقربون ولا سند, توجهت إلي الكنيسة وبعد أن طاف الخدام علي المستشفيات اتضح أن حادثا مروعا وقع للرجل سيارة نقل علي الطريق الدائري اقتلعته من فوق الأرض التي يقف عليها وظل الرجل في المستشفي أسابيع. وكان بقاؤه علي قيد الحياة معجزة بعد أن أجريت له عدة جراحات خطيرة تركت عجزا مؤثرا في ساقيه جعله يسيرب مشاية يستند إليها بكلتا يديه جارا خلفه ساقيه العاجزتين.
لجأت إلينا الزوجة الشابة وشارك باب افتح قلبك في الجراحة ثم في المصروفات الشهرية ومع استمرار العلاج الطبيعي تعافي بعض الشيئ.
لم يكن الحادث هو الأزمة الوحيد, في حياة عادل وزوجته, ففي حجرة ضيقة مظلمة كان مسكنهم غير الآدمي الذي دفع أحد الجيران لمساعدتهم في استئجار شقة نحو حياة أفضل في المستقبل, لكن الشقة كانت تحتاج إلي تسعة آلاف جنيه مقدم إيجار عقد مفتوح 59سنة كان عادل خالي الوفاض والكنيسة لا تستطيع مساعدته سوي بثلاثة آلاف جنيه وتبدد الحلم.
ثم فتح الله أبوابا أخري فبعد أن فقد الأمل في تحسن ظروفه المعيشية زاره أحد الخدام ليشرح له كيف يمكنه استخراج معاش خاص بالمعاقين. إنها مسئولية الدولة وبالفعل استطاع الرجل استخراج المعاش وقدره 470 جنيها وسارت الأحوال بالكاد مساعدة من هنا, ورأفة من هناك, وشفقه من هذا ولقمة من ذاك لأن معاش التضامن لايكفي واستمر الحال حتي علم أحد القادرين بالمنطقة التي يقطنها بموضوع احتياجه للمال, فعرض عليه أن يمنحه اسمه.
ومنح عادل اسمه للرجل القادر حتي يستطيع شراء سيارة جديدة بدون جمارك ويقيدها باسم الفقير المتسغل مقابل خمسة آلاف جنيه وضعها فوق الثلاثة آلاف ثم اقترض ألفا وتمم التسعة آلاف ليدفع مقدمشقة العمر في أقاصي الجيزة حلم بسيط جدا حققه حينما باع إعاقته وظل عادل يدفع الإيجار الشهري 450جنيها من معاش التكافل الاجتماعي, أما الشئون اليومية عن طعام وكهرباء وعلاج وغاز وملابس ودورس ومدارس فتسير بالكاد علي إعانة الكنيسة وباب افتح قلبك حتي عمل سائقا لـتوكتوك.
الذهول يرتسم علي قسمات وجهك عزيزي القاريء أليس كذلك؟كيف يستطيع أن يستقل توكتوك مع إعاقته؟ هذا كان نفس سؤالي إلي أن ذهبت إلي منزله وشاهدته, ففي كل صباح يقوم بتوصيل قربان الحمل إلي الكنيسة,ثم يعمل ساعتين ويعود إلي منزله يزخف إلي مقعد الـتوكتوك لأنه لا يقف بمفرده وحينما يستقر علي المقعد يتمكن من القيادة الخفيفة الله يعطي التجربة ومعها المنفذ وهذا كان منفذه للقمة العيش المغموسة في أواني الشقاء, لكن حتي هذا الشقاء لم يكن كافيا.
فبعد فترة زارتني زوجة عادل, وقد انتفخ جسدها, احتلت الدهشة ملامحي أنها حامل الطفل الرابع علي وشك الانطلاق إلي أرض المواجع ليضيف رصيدا جديدا إلي الغلابة لم أستطع الإمساك بأعصابي وجدتني أجلدها مع الجلادين منكم الذين يقولون الآن كيف لم تتخذ احتياطا قاسيا حتي تمنع إضافة رقم جديد إلي قوائم المحرومين كسا الخجل وجهها وقالت والانحناء لايفارق هامتها: إللي حصل بقا…وأنا علي وش ولادة دلوقت ومالناش حد ومحتاجين مصاريف ولادة قيصرية صمتت فلا املك إلا مساعدتها فمن يقف في وجه إرادة الله في منح الحياة هو القادرة علي تدبيرها.
ومرت الأيام وتحولت المحنة لبركة وطفل صغير لا ذنب له ثم ظهرت أزمة جديدة, فالتكافل الاجتماعي علم بأمر السيارة التي تحمل اسم زوجها عن طريق الرصد والمتابعة الشهرية التي تتم فقررت الوزارة وقف المعاش وفقدت الأسرة 470 جنيه كانت تسدد خانة الإيجار, وبالتالي امتنعت الأسرة عن سداده كان ذلك لمدة خمسة أشهر وفي نفس الوقت تزايد الإنفاق بسبب الطفل الجديد وبدأ صاحب العقار يهددهم بالطرد, فأين يذهب زوج وزوجة وأربعة أطفال أصغرهم عمره شهور؟
لم يكن لدي أولئك المحرومين ما يسدد إيجار الشهور الخمسة المتأخرة في الإيجار, ولا ما يضمن سداد الشهور القادمة؟ كل ذلك كتبناه حينها وقمنا بسداد ما سبق وتحملت الكنيسة إعالة الأسرة بالكامل, ولم يكن من الممكن احتمال أكثر مما تحتمله؟وها هي الأيام تدور ولا يرفع المحرمون رؤوسهم ليروا شمس الراحة أبدا, فاليوم وقد تراكمت شهور الإيجار مرة أخري, وتراجعت الأحوال للجميع وغابت المساعدات بفعل الحظر وتقييد الحركة, وانكفاء كل شخص علي حاله في زمن كورونا.
ومع إغلاق دور العبادة فلا كنائس مفتوحة ولا قربان للحمل ولا للشعب ولاتوصيلة خفيفة كانت أو طويلة كما كان يفعل كل صباح فصار الرجل عاطلا تماما كما قام صاحب التوكتوك بسحبه من عادل, والمكان كله صار موبوءا وبحكم العزل الكاملة لقرية المعتمدية, والذي سبقه حظر لمدة ثلاثة أسابيع لم يعد هناك منفذ لذلك الرزق البسيطة لم يعد لديهم ما يبيعونه بعد أن تاجر الرجل مرغما بإعاقته ليس لديهم شيئ آخر, يبيعونه ليحفظوا أربعة جدران تحميهم ومعهم أورطة من الأبناء بطونهم لاتعرف الحرمان في زمن كورونا فهل يشتري لهم أحد البقاء خلف جدران الستر؟