نواصل اليوم الكلمات التى فاه بها الرب يسوع على الصليب، وهى ثرية بالمعانى والمبادىء الإيمانية:
الكلمة الثالثة:
” قالَ لأُمِّهِ: “يا امرأةُ، هوذا ابنُكِ”. ثُمَّ قالَ للتِّلميذِ:”هوذا أُمُّكَ” (يو19: 26، 27).
عند الصليب تجلت محبة الرب يسوع العميقة وإكرامه وتقديره لأمه الحنون القديسة العذراء مريم.
لقد كانت العادة عند إعدام أحد المجرمين ألا يحضر أحد من أقربائه حتى لا يتألم كثيراً برؤية مشاهد الإعدام، ولكن الجنود الذين نفذوا عملية الصلب سمحوا بوجود العذراء مريم لزيادة آلامها، ومضاعفة آلام يسوع أيضاً، وبذلك تمموا نبوة سمعان الشيخ ” وأنتِ أيضًا يَجوزُ في نَفسِكِ سيفٌ “(لو2: 35).
أعتقد أن العذراء مريم لم تدرك معنى هذه الكلمات عندما فاه بها في وقتها، وهذا يذكرنى بالفنان ” هولمان هانت” الذى رسم صورة معبرة للعذراء وقد بهرها الذهب الذى قدمه المجوس ليسوع، وبينما هى تجمع الذهب وغارقة في أفكارها وأحلامها عن يسوع وعرشه وتاجه وسلطانه، ولكن شيئاً ما جعلها تلتفت لحظة نحو الحائط القريب منها وإذ بها ترى شعاعات الغروب تعكس عليه صليباً رهيباً مفزعاً، وما روّعها أنها أبصرت إبنها معلقاً عليه. الأمر الذى زلزل كيانها وأصابها بالفزع،لكنها تماسكت وحاولت أن تطرد هذا الفكر من خيالها، ولكن كلمات سمعان الشيخ عادت مرة أخرى إلى أذنيها “وأنتِ أيضًا يَجوزُ في نَفسِكِ سيفٌ”، … وعندما حانت ساعة الصليب عرفت العذراء مريم معنى كلمات سمعان الشيخ، فسيف الألم كان يمزق أحشاءها عندما رأت إبنها البار يتألم ويموت موت الفجار.
نعم! عند الصليب كانت الأمومة كلها واقفة حزينة .. دامعة .. متألمة … مصلية.
كما نرى عند الصليب صورة جميلة مشرقة وسط الظلام متجسده في ذلك التلميذ الذي كان يسوع يحبه … الذي وقف عند الصليب حتى النهاية ليؤكد لنا أن المحبة أطول عمراً من الشجاعة. ” مياهٌ كثيرَةٌ لا تستَطيعُ أنْ تُطفِئَ المَحَبَّةَ، والسُّيولُ لا تغمُرُها. “(نش8: 7).
هذا التلميذ كان واقفاً عند الصليب مستعداً للخدمة، وفي اللحظات الأخيرة، وسط كل مخاوف الصليب وآلامه التفت إليه يسوع وأشار إلى أمه المباركة، وقال له:”هوذا أُمُّكَ”، ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته.
ياه! بالرغم من آلامه المبرحة لم ينس الواجب المقدس، وبهذا يعلن المسيح عن أهمية العناية بالوالدين رغم الظروف الصعبة، كما قال الرسول بولس:” ولكن إنْ كانَتْ أرمَلَةٌ لها أولادٌ أو حَفَدَةٌ، فليَتَعَلَّموا أوَّلاً أنْ يوَقِّروا أهلَ بَيتِهِمْ ويوفوا والِديهِمِ المُكافأةَ، لأنَّ هذا صالِحٌ ومَقبولٌ أمامَ اللهِ”(1تي5: 4).
والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا لم يطلب المسيح من أحد أقربائه في الجسد العناية بأمه؟!
في تقديري لأن العلاقة الروحية أسمى وأبقى من العلاقة الجسدية كما قال الرب يسوع ” لأنَّ مَنْ يَصنَعُ مَشيئَةَ أبي الذي في السماواتِ هو أخي وأُختي وأُمِّي”(مت12: 50).
ولهذا رأينا يوحنا ينفذ وصية السيد ويأخذ العذراء إلى خاصته ويجعلها في دائرة إهتمامه (يو19: 27).
قال أحد الأتقياء إن المسيح أودع روحه لله الآب، ودمه للكنيسة التي اقتناها بدمه، وجسده ليوسف الرامي، وثيابه للجنود الذين صلبوه، وأمه ليوحنا، وسلامه للمؤمنين… أعتقد أن ما فعله الرب يسوع على الصليب من توصية ليوحنا بأمه القديسة العذراء مريم يعطينا درساً حياً نابضاً في العناية بالوالدين لا سيما وهما في سن الشيخوخة.
فأعتقد أنه ليس هناك مَنْ يستطيع أن يقول: أنا لست مديناً لأمي إلا إذا كان جاحداً أو ناكراً للجميل.
كيف لا؟! وحضن الأم هو أجمل مكان يستمد منه الإنسان جرعات الحنان، وحضن الأب هو الحصن الذى يلوذ به الأبناء وسط مخاطر ومخاوف الحياة ليشعروا بروعة الأمان، وبقدوة الآباء يتعلم الأبناء ألف باء الإيمان.
ولعل هذا يفسر لنا لماذا أطلق الرسول بولس في رسالته غلى أهل أفسس على وصية إكرام الوالدين إنها أول وصية بوعد فيقول: “أكرِمْ أباكَ وأُمَّكَ”، التي هي أوَّلُ وصيَّةٍ بوَعدٍ، “لكَيْ يكونَ لكُمْ خَيرٌ، وتكونوا طِوالَ الأعمارِ علَى الأرضِ”.(أف6: 2، 3).
وفي هذه الوصية نجد المطلوب من الأبناء الطاعة والإحترام، والإكرام والإهتمام بالوالدين، ولقد رأينا أعظم مثال يحتذى ويقتدى به هو ما رأيناه بكل وضوح في شخص فادينا وهو على الصليب .. وهو في قمة الألم لم ينس أن يوصي بالإهتمام والإكرام لأمه العذراء.
هل نتعلم من كلمة فادينا على الصليب أن نعيش وصية إكرام الوالدين في ثقة كاملة أن ما يَزرَعُهُ الإنسانُ إيّاهُ يَحصُدُ أيضًا، وبكل يقين أنه ما من شخص أكرم والديه إلا وأكرمه الرب وباركه وأنجح طريقه، ومتّعه بطول الأيام سواء بمعنى الكلمة حرفياً، أو بمعنى يعطى لأيامه على الأرض قيمة ومعنى ومذاق وهدف، أو بكلا المعنيين معاً، فهذا هو وعد الرب الصادق والأمين.
لمتابعة كلمات المسيح السابقة اضغط الرابط التالي: