النجاح حلم يراود الإنسان عبر الزمان، وهدف منشود يسعي إلى تحقيقه، والإنسان السوي لا يرغب في النجاح فحسب بل ومواصلة النجاح في مجالات الحياة المتعددة الشخصية والأسرية والعلمية والعملية والإجتماعية والمادية وكذلك في كل مراحل حياته العمرية.
فمَنْ يختبر مذاق النجاح يتوق إلى إحراز نجاحات أخرى، فالنجاح كما يقال رحلة لا مرحلة، وهي رحلة لا محطة فيها، إنه ليس هدفاً إنما درجة في سلم نرتقيه.
النجاح في حقيقته بداية وليس نهاية، فليس هناك محطة وصول للنجاح نستطيع أن نقول عندها إننا وصلنا إلى آخر محطة.
فصدق مَنْ قال: إن النجاح الذي يعقب النجاح الأول يدفع الشخص لإدمان النجاح.
هذا ولابد أن نضع في إعتبارنا أن للنجاح ثمنه وضريبته ولابد لمَنْ يبتغي ويرنو للحياة الناجحة أن يكون على إستعداد لدفع الضريبة والثمن عن طيب خاطر وبكل سرور.
في هذا المقال وما يليه في الأعداد القادمة سنرى الأسرار التي ثقف وراء كل ناجح ومتميز وهي كثيرة جداً أذكر منها الآتي:
خامساً: إستثمار الوقت
سُئل أحد رجال الأعمال الناجحين عن مقدار ثروته؟ فأجابه قائلاً: هل تريد أن تعرف مقدار ثروتي قبل سؤالك أم بعد سؤالك، وكان بالطبع يقصد أنه خلال زمن السؤال وإجابته تكون ثروته قد زادت، وهو يدلل بذلك على أهمية الوقت.
نعم! إن الإنسان الناجح هو الإنسان الذي يدرك قيمة الوقت ويستثمره أفضل إستثمار، والإنسان الفاشل هو الذي يهدر وقته ولا يعرف كيف يستغله، فمَنْ يقتل وقته يقتل نفسه ويحطم مستقبله. فصدق مَنْ قال:” الوقت من ذهب إن لم تحرص عليه ذهب”… “والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”.
وكلمة الله تشجعنا على الإستفادة من وقتنا في عمل مفيد ونافع فيقول الرسول بولس :” “مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ”. (أف5: 16). وكلمة الأيام (شريرة) لها أكثر من معنى.
أ. المعنى الأول : الأيام قصيرة أي سرعان ما تنتهي فصدق الشاعر عندما قال :
{دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان} وقد وصفها الكتاب بأنها [قصة ، أو بخار، أشبار…].
ب. المعنى الثاني : أن الأيام غادرة وخائنة فالإنسان لا يعرف ماذا تخبئ له الأيام؟! وما سيكون عليه غداً؟! لذلك فلا يجب تأجيل عمل اليوم إلي الغد.
ج. المعنى الثالث : الفرصة التي تضيع لا تعود مرة ثانية، فعقارب الساعة لن تعود إلي الوراء، لذلك علينا أن نغتنم كل فرصة وكل لحظة في إيدينا.
د. المعنى الرابع: “إن الأيام شريرة” أي أن العالم مليء بالشر والناس تتساقط كل يوم في شباك الشر والرذيلة فعلينا أن نتحرك ونفعل شيئاً من أجلهم.
نعم! إن الإنسان الناجح لا يهمه كم من السنوات يعيش بقدر ما يهمه كم من الإنجازات يحقق ويضيف للبشرية.
لقد عاش الرب يسوع على الأرض حياة قصيرة حوالي33سنة لكنه إستطاع أن يتمم أعظم هدف وهو خلاص البشرية.
ويوحنا المعمدان الذي كان يكبر الرب يسوع بستة أشهر، وقطع هيرودس رأسه قبل صلب المسيح، إستطاع أن يمهد ويعد الطريق أمام السيد ويقوم برسالة متميزة في عصره.
وفي الوجه المقابل نقرأ عن متوشالح أنه عاش 969سنة ولم يذكر لنا الكتاب أي إنجاز عنه فالعبرة ليس بطول الأيام أو قصرها إنما العبرة بمقدار ما يعطي وينجز ويضيف الإنسان للبشرية.
والإنسان الناجح لا يضّيع وقته في الصدام مع أعداء النجاح، كما تصور لنا عدسة الوحي المقدس نحميا وهو يواجه تحديات رهيبة من سنبلط الحوروني وطوبيا العبد العموني وجشم العربي، ففي مرة إتهموه هو ومَنْ معه بأنهم يتمردون على الملك (نحميا2: 19) وفي مرة أخرى قالوا عنهم بإزدراء وسخرية “إِنَّ مَا يَبْنُونَهُ إِذَا صَعِدَ ثَعْلَبٌ فَإِنَّهُ يَهْدِمُ حِجَارَةَ حَائِطِهِمِ”.
(نح4: 3).
وفي كل مرة كان نحميا يرد عليهم لا بالكلام بل بالإنجاز والأعمال، ولم يدخل في صراعات معهم تضّيع وقته وتبعده عن الهدف الذي رسمه، ويقول نحميا ” فَبَنَيْنَا السُّورَ … وَكَانَ لِلشَّعْبِ قَلْبٌ فِي الْعَمَلِ”. (نح4: 6).
ولما فشلت كل محاولاتهم السابقة أرسلوا إليه لكي يجتمعوا معه في منطقة إسمها (أونو) بحجة التحاور والتفاوض معه، وهم في الحقيقة كانوا يريدون قتله هناك، ولكن نحميا رد عليهم.
“إِنِّي أَنَا عَامِلٌ عَمَلاً عَظِيمًا فَلاَ أَقْدُِرُ أَنْ أَنْزِلَ”(نح6: 3). وأرسلوا له أربع مرات بمثل هذا الكلام وهو يعتذر بمهارة ودبلوماسية حتى لا يتعطل العمل، ورفض أن يضّيع وقته في معارك جانبية، وكان كل ما يهمه هو الإنجاز، فأكمل بناء السور في وقت قياسي في إثنين وخمسين يوماً.
قبل هذا وذاك على الإنسان أن يدرك أن الوقت هبة وعطية من الله فيقول إرميا ” مِنْ إِحْسَانَاتِ الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ،”(مراثي3: 22). لذلك يجب أن نكون َوُكَلاَءَ صَالِحِينَ عَلَى نِعْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ”. (1بط4: 10).
فالشعور بقيمة وأهمية الوقت ظاهرة إيمانية روحية، كما أنها ظاهرة حضارية، فمن الأقوال المأثورة لأرسطو ” يجب أن تستيقظ مبكراً فلا يجب أن تظل رأسك وقدميك على مستوى واحد طويلاً “.
نعم! إن كانت بلاد العالم الثالث تفتقر إلي الإحساس بأهمية الوقت إلا أن الإيمان المسيحي وأمانة الحياة مع الله، ونموذج حياة الرب يسوع ، وتعاليم الكتاب المقدس كل هذا يدفعنا إلي إعطاء الوقت أهميته في حياتنا وخدمتنا، ومن هنا نحتاج إلي مراجعة شاملة لكيفية إستثمار وقتنا حتى نجعل أوقاتنا مثمرة وهادفة.
سادساً: التواضع تاج النجاح
كم من أناس عندما نجحوا أصيبوا بالغرور والكبرياء فسقطوا وكان سقوطهم مدوياً فمكتوب ” “قَبْلَ الْكَسْرِ الْكِبْرِيَاءُ، وَقَبْلَ السُّقُوطِ تَشَامُخُ الرُّوحِ”).أم16: 18).
يحكي لنا الكتاب عن نبوخذنصر الذي كان ملكاً على بابل لمدة43سنة من 605-562ق.م وبكل المقاييس البشرية كان هذا الرجل أعظم رجل في عصره، لقد بلغ من القوة ما لم يكن له نظير في جيله، لقد اكتسح نبوخذنصر جميع الممالك التي كانت تحيط به، وجعل من بابل مدينة من أعظم المدن التي شُيدت في كل العصور، وأصيب نبوخذ نصر بجنون العظمة فنسمعه يقول: «أَلَيْسَتْ هذِهِ بَابِلَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي بَنَيْتُهَا لِبَيْتِ الْمُلْكِ بِقُوَّةِ اقْتِدَارِي، وَلِجَلاَلِ مَجْدِي؟»(دا4: 30).وكانت النتيجة أن الله ضربه بالضربة القاسية إذ أسقطه إلي مرتبة الحيوان فمكتوب:” فِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَمَّ الأَمْرُ عَلَى نَبُوخَذْنَصَّرَ، فَطُرِدَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَأَكَلَ الْعُشْبَ كَالثِّيرَانِ، وَابْتَلَّ جِسْمُهُ بِنَدَى السَّمَاءِ حَتَّى طَالَ شَعْرُهُ مِثْلَ النُّسُورِ، وَأَظْفَارُهُ مِثْلَ الطُّيُور”ِ.(دا4: 33). وأضحى نبوخذنصر عبرة لنفسه ولجميع الذين يرفعون عيونهم إلي العلاء في كبرياء وإستعلاء.
لقد هوى به الله من القمة إلي القاع، من القيادة إلي القيد، ومن المجد إلي الهوان، وعندما تواضع ورفع عينيه نحو السماء في ذلة وإنكسار رحمه الله وشفاه وأعاد إليه أيضاً جلال ملكه ومجده حتى أخذ يشهد قائلاً:” وَعِنْدَ انْتِهَاءِ الأَيَّامِ، أَنَا نَبُوخَذْنَصَّرُ، رَفَعْتُ عَيْنَيَّ إِلَى السَّمَاءِ، فَرَجَعَ إِلَيَّ عَقْلِي، وَبَارَكْتُ الْعَلِيَّ وَسَبَّحْتُ وَحَمَدْتُ الْحَيَّ إِلَى الأَبَدِ، الَّذِي سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ، وَمَلَكُوتُهُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ… فَالآنَ، أَنَا نَبُوخَذْنَصَّرُ، أُسَبِّحُ وَأُعَظِّمُ وَأَحْمَدُ مَلِكَ السَّمَاءِ، الَّذِي كُلُّ أَعْمَالِهِ حَقٌّ وَطُرُقِهِ عَدْلٌ، وَمَنْ يَسْلُكُ بِالْكِبْرِيَاءِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُذِلَّهُ”.(دا4: 34، 37).
وهل ننسى قصة الملك عزيا الذي تولى المُلك على مملكة يهوذا وهو ابن ستة عشرة سنة وبدأ بداية رائعة جداً مع الرب، وأعطاه الرب نجاحاً منقطع النظير، وأقام جيشاً من أقوى الجيوش، ونجح في الزراعة والتجارة وإزدادت ثروته جداً ولكن للأسف أصيب بالغرور وبدأ يترنح بكأس النجاح فسقط إذ يقول الكتاب عنه ” وَلَمَّا تَشَدَّدَ ارْتَفَعَ قَلْبُهُ إِلَى الْهَلاَكِ”(2أخ26: 16). فلقد دخل هيكل الله ليوقد على مذبح البخور الأمر الذي كان ممنوعاً، لم يقبل أن يكون ملكاً فقط ولكنه أراد أن يكون رئيس دولة ورئيس دين، فلقد لبس الثياب الكهنوتية وأخذ المبخرة ليبخر بها كما يفعل رئيس الكهنة، وكانت هذه أتعس لحظة في تاريخ عزيا وهوت به إلي قاع الفشل، لقد ضربه الرب بالبرص في جبهته فطردوه وأقام في بيت المرض أبرص إلي يوم وفاته وفقد كل شيء.
وريشة الوحي ترسم لنا صورة هيرودس الملك بعدما وصل إلى قمة مجده وسطع نجمه، شعر في نفسه أنه إله من شر الكبرياء، وهنا كانت نهايته فمكتوب :” فَفِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ لَبِسَ هِيرُودُسُ الْحُلَّةَ الْمُلُوكِيَّةَ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ الْمُلْكِ وَجَعَلَ يُخَاطِبُهُمْ. فَصَرَخَ الشَّعْبُ:«هذَا صَوْتُ إِلهٍ لاَ صَوْتُ إِنْسَانٍ!» فَفِي الْحَالِ ضَرَبَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ لأَنَّهُ لَمْ يُعْطِ الْمَجْدَ للهِ، فَصَارَ يَأْكُلُهُ الدُّودُ وَمَاتَ”(أع12: 21- 23).
يا للعجب كان العرش عالياً والجالس عليه يشعر بأن الجميع عند قدميه… لقد تمهل الرب عليه طويلاً، لكن هيرودس إستهان بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، فكان نصيبه أن تنتهي حياته بصورة مرعبة ومفزعة لم يسبق لها مثيل إذ صار يأكله الدود وهو بعد على العرش الملوكي، فمن المنطقي أن الدود لا يأكل سوى الميت لكن الكتاب يقول : أولاً (صار يأكله الدود) وبعد ذلك يقول : (ومات) فمعنى هذا أن هيرودس ذاق الموت وهو على قيد الحياة فينطبق عليه القول ” أَنَّ لَكَ اسْمًا أَنَّكَ حَيٌّ وَأَنْتَ مَيْتٌ. ” (رؤ3: 1) ولما كان الدود سيأكل الإنسان في جهنم ” حَيْثُ النَّارُ التي لاَ تُطْفَأ وَُالدُودُ الذي لاَ يَمُوتُ. “(مر9: 44). فمعنى هذا أن هيرودس عاين وعاش في جهنم وهو على الأرض … صعدت الجحيم إليه قبل أن يهبط هو إليها… إشتعلت نيران الجحيم في قلبه قبل أن يصير هو وقوداً لنارها.
كيف لا؟! ومكتوب لأَنَّ:«اللهَ يُقَاوِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً».(1بط5: 5).
نعم! إن الكبرياء سر السقوط والتواضع سر النجاح، لهذا عندما نصل إلى النجاح ونسمع تصفيق الناس لنا فهذا لا يُسكرنا وإنما يُذكرنا أن نرفع قلوبنا بالشكر لإلهنا ونعطي له المجد الذي باركنا ووفقنا ويدفعنا إلي مزيد من النجاح.
لمتابعة أسرار النجاح السابقة، اضغط الرابط التالي: