القراءة الكتابية إنجيل يوحنا إصحاح 21
على ضفاف بحر طبرية أجرى الرب يسوع المعجزة الختامية أثناء وجوده على الأرض قبل صعوده فمكتوب في يو21: 1 بَعْدَ هذَا أَظْهَرَ أَيْضًا يَسُوعُ نَفْسَهُ لِلتَّلاَمِيذِ عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ وكَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ قد قال لمجموعة من التلاميذ :«أَنَا أَذْهَبُ لأَتَصَيَّدَ». قَالُوا لَهُ:«نَذْهَبُ نَحْنُ أَيْضًا مَعَكَ». هذِهِ مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ ظَهَرَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ بَعْدَمَا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. كما هو مكتوب في يو21: 14 .
ولعل البشير يوحنا كان قد رصد هذه الحادثة ليؤكد على أهم حقيقة في المسيحية وهي قيامة المسيح فلو لم يكن المسيح قد قام لكان إيماننا باطل ، وكرازتنا باطلة .(1كو15: 12- 19).
نعم ! فالقيامة حجر الأساس في إيماننا المسيحي وفي قيام الكنيسة.
وبعدما ظهر الرب يسوع لبطرس واللذين معه أعطاهم أن يصطادوا سمكاً كثيراً وكبيراً مئه وثلاثاً وخمسين سمكة بعد ليلة طويلة لم يصطادوا فيها شيئاً ، كانت هذه المعجزة كانت عظة قوية حافلة بالدروس الروحية ، وزاخرة بالقيم المسيحية أذكر منها الآتي:-
أولاً : بعيداً عن الرب لا يمكن إن نحقق أهدافنا :
في يو 21: 3 ترسم لنا ريشة الوحي المقدس أن بطرس ومن معه دخلوا السفينة وفي تلك الليلة لم يمسكوا شيئاً لقد انتقد البعض من المفسرين بطرس لعودته للصيد مرة ثانية ، وعلى تشجيعه للبعض أن يذهبوا معه كيف يذهب للصيد بعد إن دعاه الرب يسوع ليكون صياداً للناس !! حتى وان كان البعض يفسر ذلك أن بطرس أراد أن يكون مثل جماعة الربيين الذين كان لكل واحد منهم حرفة خاصة بجوار عمله الديني ، كما كان بولس يصنع الخيام لكي لايثقل على أحد .
ولكن الله في حكمته جعلهم لم يمسكوا أي شيء في تلك الليلة ، وكأنه يريد أن يقطع عليهم الطريق كي لا يرجعوا مرة أخرى لحرفة الصيد ، ولا ينشغلوا بغيره .
نعم ! بعيداً عن الرب لا شبع ولا إرتواء ، والعكس صحيح ففي المسيح كل رضى واكتفاء ، فالقصة تقول إن الرب يسوع سأل التلاميذ ألعل عندكم إداماً ” ما يؤكل مع الخبز” أجابوا لا ( يو 21: 5) ثم قال لهم إلقوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن فتجدوا ، فألقوا ولم يعودوا يقدرون أن يجذبوها من كثرة السمك (يو 21 : 6 ).
ولما خرجوا على الشاطئ وجدوا يسوع وقد أعد لهم وليمة ثم قال لهم “هلم تغدوا ” ثم جاء يسوع وأخذ الخبز وأعطاهم وأخذ السمك وأعطاهم (يو 21: 9، 12، 13 )
نعم ! هو الرب فيه كفايتنا ، ومعه نترنم ” ومعك لا أريد شيئاً ” (مز73: 25)
ثانياً الخطية سر العري والعار :
في يو 21: 7 ” لما سمع سمعان بطرس إنه الرب إتزر بثوبه لأنه كان عرياناً وألقي بنفسه في البحر.
كان بطرس بملابس الصيد شبه عاري، وهذا ما يحصده الإنسان عندما يذهب بعيدا عن الخطة التي رسمها له الرب، فالخطية تعري الإنسان وتلطخه بالعار ” فعار الشعوب الخطية ”
كيف لا ! ألم يذكر الكتاب عن أبينا آدم عندما أخطأ هو وأمنا حواء علما أنهم عريانان ، وحاولا تغطية عريهما فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر (تك 3: 7) لكن دون جدوى وكان الحل أنه في ملء الزمان الله ظهر في الجسد ، وعلى الصليب صُلب الرب يسوع شبه عاري فمكتوب ” اقتسموا ثيابي بينهم ، وعلى لباسي ألقوا قرعة هذا فعلة العسكر ” ( يو 19: 24 ) .
نعم ! لقد صُلب الرب يسوع شبه عاري على الصليب ، فقد حمل خطايانا التي هي سر العري ، وأخذ ينسج بيده الطاهرة ثوب خلاصنا ، ورداء برنا وصبغهما بدماه الثمينة الذكية لكي يغطى عرينا ويمحو عارنا .” ويجعلنا نترنم فرحاً أفرح بالرب تبتهج نفسي باله خلاصي لأنه ألبسني ثوب الخلاص وكساني رداء البر ”
ثالثاً: العالم كله ميدان إرسالية الكنيسة :
يتساءل البعض لماذا يذكر البشير يوحنا إن عدد السمك الذي اصطاده التلاميذ هو ” مائة وثلاثة وخمسين سمكة ” ( يو 21: 11 )
قال البعض من المفسرين إن من عادة يوحنا تقديم الحقائق الروحية في صورة مادية، فينبغي أن نتوقع شيئا من وراء ذكر هذا الرقم فالبعض من المفسرين يرى أن ذكر العدد أنه 153 أي أن عدد المختارين للحياة الأبدية محدود ومعروف وهذه حقيقة كتابية كانت في علم الله السابق .
فأصحاب المدرسة الرمزية قالوا إن العدد 153 يحتوي على العدد “المائة” وهو يرمز إلى كمال ملء الأمم في اجتذابهم إلى شبكة النعمة الإلهية ، إلى حظيرة المسيح .
ففي مت 18: 12 حدد عدد الخراف بمائه خروف وفي مثل الزارع مت 13: 28 عن الأرض الخصبة بالقول أنها تعطي مائة ضعف.
والعدد ” خمسون ” يرمز إلى البقية التي تخلص من شعب الله.
والعدد ” ثلاثة ” يرمز إلى الثالوث الأقدس الممجد في خلاص الكل.
أما القديس إيرنيموس فيقول كان من المعروف في وقت تجسد المسيح أن مياه البحر تحوي على مائة وثلاثة وخمسين نوعاً من الأسماك ، وعلى ذلك فحصيلة الصيد تضم كل أنواع السمك ، فالرقم يشير إلى أنه لابد أن يأتي الوقت الذي فيه تصبح كل الأمم والممالك للرب ومسيحه ، هذا العدد الوفير ضمته شبكة مطروحة في البحر وجامعة من كل نوع فلما امتلأت أصعدوها على الشاطئ .
فالكنيسة يجب أن تفتح ذراعيها للجميع وتضم إلى أحضانها كل يوم الذين يخلصون من كل أمة وقبيلة وشعب ولسان فلقد شبه الرب يسوع ملكوت السموات بشبكة مطروحة في البحر وجامعة من كل نوع (مت13: 47- 48).
وهذه كانت صلاة الرب يسوع في يو 17: 18 ” كَمَا أَرْسَلْتَنِي إِلَى الْعَالَمِ أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى الْعَالَمِ، ”
كيف لا ! ومكتوب “لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.“يو 3: 16
وأوصى تلاميذه في وصية الوداع “:«اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا “( مر16: 15 ).
رابعاً : علينا إن نبرهن عن محبتنا للرب بخدمتنا له :
فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: «يَاسِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هؤُلاَءِ؟» قَالَ لَهُ:«نَعَمْ يَارَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ: «ارْعَ خِرَافِي». يو 21: 15
لقد سأل الرب يسوع بطرس هذا السؤال ثلاث مرات وكأنه يريد أن يقول له هل وصلت يا بطرس في محبتك إلى المنسوب الذي أريدك أن تكون عليه ؟!
وربما أراد أن يقول له يا بطرس عبر وبرهن عن محبتك لي لا بالكلام واللسان بل بالعمل والحق ، برهن عن محبتك بخدمتك … إن كنت تحبني إرع غنمي .
وربما أراد إن يقول له يا بطرس ” إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويصنع وصاياي “
وربما أراد أن يقول له هل تحبني يا بطرس أكثر من هؤلاء، أكثر من أدوات الصيد، أكثر من القارب والشباك؟
هل أنت على استعداد أن تضحي بكل أحلامك الجسدية ، وخططك المادية في سبيل خدمتي؟!
ولعل الرب يسألنا اليوم هل يمكن أن نضحي براحتنا واستقرارنا لأجل خدمته ؟!
وهل نحن نبني لملكوت الله أم نبني لملكوت أنفسنا ؟!
هل نعترف أنه في مرات كثيرة يكون حبنا لأولادنا وأعمالنا ونجاحنا أكثر من حبنا لإلهنا ؟!
خامساً : علينا أن نكون أمناء للرب حتى الموت :
قال الرب يسوع لبطرس : لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ. وَلكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَيْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لاَ تَشَاءُ». قَالَ هذَا مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يُمَجِّدَ اللهَ بِهَا. وَلَمَّا قَالَ هذَا قَالَ لَهُ:«اتْبَعْنِي».(يو21: 18، 19). أي إتبعني حتى الموت موت الصليب .
وهنا نجد أن يسوع كان يكشف لبطرس عن مستقبله ويقارن بين شبابه وشيخوخته ، ففي شبابه كان ينعم بالحرية ، أما في الشيخوخة سيُحمل إلى حيث لا يشاء ، إلى الموت ، وليس معناه أنه بطرس سيهرب من الموت ولكن كطبيعة بشرية تفزع وتتراجع بطبيعتها أمام الموت .
ويحكي لنا تاريخ الكنيسة أن بطرس ذهب إلى روما ليتفقد المسيحيين هناك ، وكان ذلك أثناء إضطهادنيرون للمسيحيين ، وقيل أن البعض شجعه على الإبتعاد عن روما خوفاً عليه ، وذات مساء أخذ بطرس طريقة خارج روما ، وفي الصباح الباكر أبصر شخصاً مهيباً أمام عينيه وإذ عرف أنه المسيح صاح من أعماقه إلى أين أنت ذاهب يا سيد ؟ فأجابه المسيح قائلاً : إن لي تلميذاً كان هناك في روما ثم هرب ، وأنا ذاهب لآخذ مكانه ، وأُصلب مرة ثانية نيابة عنه ، وكان ذلك الجواب كزلزال هز كيانه ، وزلزل أعماقه ، وصرخ بطرس لا يا سيد أنا راجع … أنا راجع لميدان خدمتي ، وسأبقى لك إلى الموت ، وبالفعل عندما عاد في يوم من الأيام أمسكوه وحكموا عليه بالصلب ، فقال إنه إمتياز لا أستحقه أن أموت مصلوباً كسيدي ، ولكن أرجو أن تصلبوني ورأسي إلى أسفل وقدماي إلى أعلى ، لأني أقل من أن أكون كسيدي ونظر إلى روما وصاح قائلاً : عما قريب ستتحولين أيتها الهياكل الوثنية إلى معابد للمسيح ، وقال للجماهير المحتشدة من حوله في يوم من الأيام أولادكم سيكونون خداماً للمسيح ولسوف يجيء قياصرة ويذهبون ، ولكن مملكة المسيح ستظل راسخة وشامخة على مر الأجيال والعصور ولا يكون لملكه نهاية .
نعم ! إن الرب يدعو كل واحد منا قائلاً ” إتبعني ” إتبعني إلى الموت ” كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة ” .
سادساً : مسيحنا هو إلهنا الغير محدود :
يختتم البشير يوحنا إنجيله بالقول : وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ. (يو21: 25) ويقول قبل هذا “ وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هذَا الْكِتَابِ “. (يو20: 30) والإشارة هنا لا إلي سعة العالم الجغرافية ولكن إلى سعة العالم الفكرية . فالإله الغير محدود كيف يسعه الفكر البشري المحدود .
حقاً ! تعاليمه أسمى من عقولنا ، ومعجزاته أكثر من خيالنا ،وحياته فوق إدراكنا .
كيف لا ؟! ويوحنا في مستهل إنجيله يقول : فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. (يو1: 1- 3) .
نعم ! ما كُتب عن المسيح بمثابة قطرة من بحر واسع ، علينا في كل يوم أن ننهل من تعاليمه ونترجمها في حياتنا اليومية إلى أسلوب حياة مسيحية .