نولد في الحياة ولكل منا قدمان، تتسمر إحداهما أينما نشأنا، بينما تبقى الأخرى عالقة في الفضاء، في انتظار قفزة تلقينا نحو المستقبل، ذلك المستقبل الذي يهجرنا ويتمنع، فينفينا في ماضي نشأتنا، أنين بلا آذان، عطشيى بلا ري، نعاس بلا أحلام، وعنكبوت الأقدار يغزل نسيجه حول أعناقنا، فيطيح بآخر النسمات، ويطل المستقبل منسوخا من أوراق الماضي التعيس، نسخة معدلة، مصحوبة بجموع العصر، وقسوة الظروف، وبين أساطير الغد الأجمل، وجلاد الواقع، تسقط تلك القدم المنتظرة منذ الميلاد، تلك القدم العالقة، آمنت أن القفزة لا تأتي للجميع، بل أن البعض يقفزون إلي أسفل، فيتعين على من قفزوا إلى فوق بناء سلم الأنقاذ.
كثيرون فقدوا الحلم بالمستقبل، واستكانوا في أحضان الحاضر لعلهم يقدرون، حاولوا القفز للمستقبل لكن نسخ من معاناة الماضي تجذبهم نحو الأسفل، بينهم امرأة عجوز، إنها ”جمالات” التي تنتمي لأسرة بسيطة، الأب إسكافي، والأم ربة منزل، والإخوة خمسة يأتي ترتيبها الثانية بينهم، لم تر والدها رؤية الوعي، إذ فارق الحياة ولم تزل ابنة عامين، وتحملت والدتها مسئولية الأسرة، وجلب الرزق حتي حصل جميع الأبناء على شهادة دبلوم التجارة، ما عدا ”جمالات” التي تركت المدرسة في المرحلة الابتدائية، وظلت تخدم إخواتها، بل قدمت نفسها لمساعدة والدتها في مسئولية الإنفاق على الأسرة، عن طريق غسل السجاد للمعارف، وحينما وصل عمرها 19 سنة، قرع النصيب بابها وتزوجت، بعد أن اختبرت المسئولية ومعاناة الحياة، لذلك رحبت بأقل القليل، سكن متواضع، وزوج حارس في جراج، وحياة أشبه بما عاشتها مع أسرتها.
لم تطمح فيما هو أكثر، ولم يرتفع سقف توقعاتها في المستقبل ليصل ـ على حد تعبيرها ـ إلي أبعد من الستر واللقمة وأربع حيطان تحوش عيون الناس، لكن الواقع مرير جدا، ولا يهبنا حتى أقل القليل الذي نرتضي به ما لم تكن الأقدار مواتية رحل زوجها عن الحياة وصارت أرملة وفي عنقها ابنتان وابن، لم تكن لديها قدرات ولا مواهب سوى غسل السجاد، حتى تنفق عليهم، لكنه لم يكف، ومع ضغط الحاجة، لم يكن أمامها إلا التسول، حتى تنفق على الثلاثة، ومرت السنون، وتزوجت الابنة الكبرى، في محافظة أخرى وانفصلت عن الأسرة ماديا، ونفسيا، فلم تعد حنونة رغم حاجة والدتها لها. أما الصغرى فتعمل بائعة في محل وتتقاضى 600 جنيه.
الابن المنقذ المنتظر، هو لب الأزمة يبلغ عمره حاليا 37 سنة، ف”جمالات” تجاوزت الستين عاما، تروي الأم الحزينة قائلة: عشت عمري والبكري، الحيلة إللي أملي أنه كان يخرج من الجيش يسندني، وينفض عني هم السنين، وينتشلني من حفرة الشحاتة، لكن إللي حصل كان أسوأ شيء ممكن تشوفه أم في ابنها، بعد ما دخل الجيش، وعمره وقتها كان 19 سنة، ظهرت عليه أعراض اضطراب عقلي غريبة، ولأنه كان بعيد عننا ماكناش بنعرف كل حاجة، لكن أبرز التصرفات هي المتعلقة بأنه بيقول: أنا مش راجل أنا بنت، ويدخل الحمام يدور على أعضائه الذكرية، ويبكي، ولما يخرج يجري على البلكونة عايز يرمي نفسه، ولما مرة سبناه افتكرنا أنه بيهددنا بس، رمى نفسه ومسك في المنشر، والجيران أنقذوه بمعجزة.
رحنا بيه لدكتور ووصف علاج مهدئ، وجلسات، ومرت فترة هادية، بعدها خلص خدمته وراح اشتغل في الغردقة، وهناك حاول يغرق روحه في البحر، والناس أنقذوه. من خوفي عليه بقيت بأتخبط وأجري علي الكنايس توصلني بدكاترة نفسيين يحلوا المشكلة، ابني بيضيع مني يا ناس، لكن مفيش حاجة رجعت لطبيعتها، والحال ساء أكتر من الأول، بقيت أشيل من وشه أي آلة حادة، وتواصلنا مع طبيب مشهور، حجزه في مستشفى همان” أربع سنين الأسبوع الواحد فيها تكلفته خمس آلاف جنيه.
في البداية صرفنا كتير، كل إللي ممكن يساعدنا لجأنا له، لكن الموضوع طول، وبقيت أسيبه في المستشفى وأروح أشحت في الشوارع، وكنت بألم حق الإقامة، لكن مع الوقت مأ قدرتش أوفي، فخرجته من مستشفى بهمان، ووديته العباسية، وهناك قالوا عنده فصام، أنا مأعرفش إيه الفصام ده لكن شايفة ابني عايز يموت نفسه، يعني حتى لا هأقدر أفرح بيه ولا أشيل له عيال.
الفصام هو اضطراب حاد في الدماغ يشوه طريقة الشخص المصاب به في: التفكير، التصرف، التعبير عن مشاعره.
استمر الحال على ما هو عليه لغاية ما صرفنا له معاش الحكومة 375 جنيه، وأنا بأصرف معاش السادات 700 جنيه، والبنت بتقبض 600 جنيه، والكنيسة بتساعد بـ150 جنيه يعني دخلنا كله على بعضه، 1825 جنيه إحنا تلاتة، أكل وشرب وإيجار 300 جنيه، غير الميه والنور والغاز زي كل الناس، علاج وطوارئ، وكل حاجة من المبلغ ده، طبعا مش بيكفي أي شيء، وعلشان كده ما بطلتش شحاتة في الشوارع، وفضلت أمد أيدي، شوية أداري وشي وشوية أكشفه، شوية أروح مكان بعيد وشوية أشحت جنب الكنيسة، ومأ قدرتش أخبي أكتر من كده، لغاية ما جه يوم وقابلت بنتي وأنا بأشحت، جات لها صدمة كبيرة، وقعدت أسبوع ما تنزلش من البيت.
وقالت لي: عرتينا فضحتينا، إحنا نجوع وما تشحتيش والحقيقة أنا مش عارفة أومال هي كانت متصورة بأجيب فلوس منين علشان العيشة فضيحة إيه إللي بتتكلم عنها وهي أصلا مرتبها مش بيكفيها، وجوع أيه أكتر من إللي إحنا فيه، ده أنا بأشحت علشان أجيب الأساسيات، ما حدش بيسامح ما حدش عايز يصدق أني ماكانش عندي حلول تاني، طول عمري ماعرفش أعمل حاجة إلا غسيل السجاد، لكن وأنا في السن ده قولي لي أغسله إزاي، خشونة في الركب، وضغط وسكر، وضهر محني العمر بطوله ونفس مكسورة، ما بقاش عندي حيل إلا للشحاتة، رغم أنها متعبة جدا أوعي تفتكري أنها سهلة، دي شغلانة مرهقة، ودولوقتي ما بقاش عندي حيل حتى للشحاتة، ما بقتش أقدر عليها.
رجلي مش شايلاني ولا متحملة لف في الشوارع، ولا حد شايل عني الحمل، أنا بأراعي ابني التعبان، وليسه لما يجي عريس لبنتي، ما عرفش هأعمل إيه؟ لقيت وسط كل ده ناس بيقولوا لي في باب اسمه افتح قلبك، روحي له يساعدك، فما كدبتش خبر، وجيت وقلت لكم كل حاجة بصراحة، لأني مش خجلانة إني مديت أيدي للشحاتة وقت ما كنت أقدر أمد شرفي، ورفضت، لأني ما عرفش أعمل أي حاجة تجيب فلوس.